ذكرياتي عن غسان كنفاني
قبل خمسين عاماً، في شهر يوليو، اغتالت إسرائيل غسان كنفاني. وعلى مر السنين، فكرت كثيراً في غسان، وإسهاماته في الأدب العربي والدور الذي لعبه في تشكيل أطروحتي للدكتوراه وتفكيري في فلسطين. وخلال صيف عام 1971، في أثناء تواجدي في لبنان لإجراء بحث حول ظهور الهوية الوطنية الفلسطينية، التقيت غسان، وكادت تلك المواجهة الأولى أن تنتهي قبل أن تبدأ. وبعد أن أنهى مكالمته، نظر إلي وأشار باستخفاف إلى أنني «أميركي آخر من أصل عربي جاء إلى لبنان ليجد نفسه في القضية الفلسطينية». وأشار إلى صورة وراءه عن التعبئة الجماهيرية ضد الحرب في فيتنام، وأشار متغطرساً إلى أنه إذا أردت أن أجد نفسي، فيجب أن أعود إلى الديار وأنضم إلى هذا الجهد والنضال من أجل الحقوق المدنية.
وبدلاً من تركه فحسب والرحيل، أجبت باقتضاب بأنني ناشط في كل الحركات المناهضة للحرب والمدافعة عن الحقوق المدنية، وأنني في لبنان ليس لأجد نفسي لكن لإجراء بحث لأطروحتي العلمية. وأضفت أنني بحاجة للمساعدة في الاتصال بالفلسطينيين في المخيمات، وإما أن يساعدني أو لا يساعدني. وأجدى كلامي المباشر نفعاً فيما يبدو، فأجرى كنفاني وآخرون اتصالاتهم لنقلي إلى المخيمات. وقضيت وقتاً في عين الحلوة لألتقي هناك بالعشرات من اللاجئين الفلسطينيين، وأسجل قصصهم، وأرى صوراً للمنازل التي تركوها وراءهم، وأتحدث عما يعنيه كونك فلسطينياً بالنسبة لهم. وحين عدت إلى بيروت، أجريت عدة لقاءات أخرى مع غسان تحدثنا فيها عن أطروحتي. وأخبرته عن فكرة «حركات إعادة الإحياء» التي طورها أحد المشرفين على أطروحتي، عالم الأنثروبولوجي، أنتوني إف. سي. والاس، وتتحدث عن مدى التحول الذي يحدث غالباً في الأفكار لدى الجماعات التي أصيبت بصدمات نفسية بسبب الزعزعة الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية. ووصف والاس الذي درس الحركات الثورية لدى سكان أميركا الأصليين، هذا التحول بأنه «إعادة تنظيم طريق المتاهة»، حيث يتم استبدال الأنماط القديمة للفكر والهوية بإحساس جديد بالفهم الجماعي، وبعض هذه الحركات ينظر إلى ماض مثالي. وآخرون يعتمدون على تجارب الماضي لكنهم يتطلعون لتحول مستقبلي يمضي قدماً إلى الأمام. وأنصت غسان ثم قال: «لفهم الفكر الثوري التطلعي، عليك الذهاب إلى المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل، ستجد في شعرهم وسياساتهم المستقبل الفلسطيني، إن رؤيتهم هي التي ستقودنا». وأهداني دواوين شعرية لتوفيق زياد ومحمود درويش وسميح القاسم وآخرين، وأجريت معه مقابلة طويلة (نشرتها لاحقاً) حول «دور الشعر في النضال الفلسطيني». وعُدت وبدأت في كتابة أطروحتي، وراسلت غسان بشكل دوري، وبعد أشهر، صُدم العالم بهجوم إرهابي مروع قام به عناصر من الجيش الأحمر الياباني أسفر عن مقتل 29 سائحاً بريئاً في مطار اللد الإسرائيلي. وحين رأيت أن المجلة التي كان غسان يتولى تحريرها قد أشادت بالهجوم، هالني الأمر وكتبت له غاضباً مندداً بالمجزرة ووصفتها بجريمة قتل عبثية مثيرة للاشمئزاز، وأدنت دعم المجلة لها، فعلى الرغم من ازدواج معايير الغرب، كان العمل هجوماً إرهابياً مروعاً. كان التأثير الذي أحدثه غسان وجيله من الفلسطينيين عميقاً، فما كان عساه أن يحدث لو أن العالم قد استجاب لدعوتهم لتحقيق العدالة لفلسطين، ولو لم تحدث الصدمات المستمرة التي شكلت الوجود الفلسطيني، ولو لم تتبع جميع الأطراف إحساساً متضارباً بالأخلاق على عنف المقاومة وعنف «النكبة» وما أعقبها من أهوال الاحتلال؟ لن نعرف أبداً ماذا عساه أن يحدث، لكنني متأكد من أنني أتمنى لو ظل غسان معنا لإجراء محادثة معه. * رئيس المعهد الأميركي العربي- واشنطن