اللامساواة تُضعِف القوة العسكرية
تميل الجيوش التي تشوبها مظاهر اللامساواة إلى استعمال أسلوب الإكراه مع عناصرها، وخوفاً من عدم الانضباط الجماعي، قد تلجأ هذه الجيوش إلى أساليب قيادية صارمة، فتُطلق التهديدات أو تستعمل العنف لضمان تماسك أفرادها.
أدى الغزو الروسي الفاشل لأوكرانيا، تزامناً مع نشوء مقاومة أوكرانية عنيدة على نحو غير متوقع، إلى تأجيج الجدل حول شوائب الأدوات الراهنة لقياس القدرات العسكرية. صُدِم محللو الاستخبارات الأميركية بتفكك الجيش الأفغاني السريع في عام 2021، وانهيار الوحدات العراقية في وجه تنظيم «داعش» في عام 2014، وأداء إثيوبيا الفوضوي ضد ثوار «تيغراي» في آخر سنتين. كان المحللون الأميركيون محقين حين توقعوا أن تغزو روسيا أوكرانيا في فبراير، لكن فرضياتهم التي تتوقع سقوط أوكرانيا خلال أيام معدودة أدت إلى إقناع الكثيرين بوجود خطبٍ ما في طريقة تقييم القوة العسكرية في الأوساط الاستخبارية، وتحت ضغط المشرّعين المستائين، أطلق المسؤولون الاستخباريون الأميركيون مراجعة داخلية شاملة لأدوات تقييم القوة العسكرية بعد الأخطاء المرتكبة في أفغانستان وأوكرانيا وأماكن أخرى.تنجم هذه الإخفاقات الاستخبارية عن عامل مشترك: تجاهل محركات القوة العسكرية غير المادية. الأهم من ذلك هو إغفال المسؤولين عن تأثير اللامساواة الاجتماعية داخل الجيوش على أداء العناصر في ساحة المعركة. تعطي النماذج الراهنة من التقييمات (أي الإطار المستعمل لقياس قوة الجيش النسبية) الأولوية للمؤشرات القابلة للقياس، مثل عدد الدبابات والجنود، لكن تبيّن أن هذه المعايير تبقى مؤشرات ضعيفة على طريقة القتال وفرص الفوز في الحروب. كان عدد الجنود في القوات الأفغانية مثلاً يفوق مقاتلي حركة «طالبان»، لكنهم عجزوا عن تحويل هذا التفوق العددي إلى انتصار ملموس، وحتى أكبر القوات المقاتلة وأكثرها جاهزية من حيث المعدات قد تخسر في ساحة المعركة إذا كانت تفتقر إلى التماسك وقوة الإرادة التي يتمتع بها الخصوم.
في النهاية، لا تعكس الجيوش حجم العناصر والمعدات فحسب، بل إنها تتأثر أيضاً بالانقسامات الإثنية والعرقية والطبقية والاجتماعية التي تُحدد قدرات الجنود في ساحة القتال، لكن الأوساط الاستخبارية تتجاهل هذه العوامل وتجازف بمواجهة مخاطر كبرى.على عكس المؤشرات النموذجية للقوة الوطنية، ترتبط اللامساواة العسكرية بكل وضوح بطريقة القتال واستعداد الجيوش لخوض المعارك، وكلما زاد عدد الجنود المنتمين إلى جماعات مُهمّشة، ساء أداء الجيش في ساحة المعركة. كذلك، تنشر مظاهر اللامساواة مشاعر انعدام الثقة بين أصحاب الامتيازات والمُهمّشين، ما يؤدي إلى إضعاف الروابط بين الجنود والضباط والعناصر الأدنى مستوى، حتى ان حالات الظلم السابقة تطلق قضية مشتركة وسط الجماعات المستهدفة وتُشجّعها على مقاومة السلطات العسكرية، وقد فضّل جيش الإمبراطورية النمساوية المجرية خلال الحرب العالمية الأولى الهرب من ساحة المعركة على أداء واجباته مثلاً، لأنه كان يشمل جنوداً مجريين وسلافيين مقموعين.كذلك، تميل الجيوش التي تشوبها مظاهر اللامساواة إلى استعمال أسلوب الإكراه مع عناصرها، وخوفاً من عدم الانضباط الجماعي، قد تلجأ هذه الجيوش إلى أساليب قيادية صارمة، فتُطلق التهديدات أو تستعمل العنف لضمان تماسك الجيش، حتى ان الجيوش التي تفتقر إلى المساواة بين عناصرها قد تُشجّع الجنود على أعمال النهب والاغتصاب كمكافأة لهم على خدماتهم المستمرة، كذلك، قد تُجبِر اللامساواة القادة على تبسيط تكتيكاتهم لأنهم يخوضون حرباً ضمنية داخل الحرب الكبرى، ويجدون صعوبة في فرض الانضباط وجمع قوة كافية لمتابعة القتال، وغالباً ما يكون مصيرهم الفشل.تترافق اللامساواة العسكرية مع مؤشرات مهمة قد تنذر بالأداء المرتقب في ساحة المعركة، وتُعتبر هذه المظاهر أكثر وضوحاً من غيرها، إذ يصعب على الدول أن تخفي هياكل مجتمعاتها أو معالم القمع فيها. يستطيع المحللون أن يستعملوا البيانات مفتوحة المصدر والأبحاث التاريخية لتحديد حجم اللامساواة والتصدعات في أي جيش، حيث تتغير الانقسامات الاجتماعية بوتيرة بطيئة دوماً، فتنشئ أسساً ثابتة لإقامة المقارنات، ونظراً إلى طبيعة الهياكل الاجتماعية التدريجية وصعوبة الإخفاء، تكون التقديرات المرتبطة باللامساواة أكثر دقة من تقييم التقنيات أو العقائد العسكرية الجديدة. كذلك، يمكن تصميم مقاييس اللامساواة بناءً على كل سياق فردي.في بعض الظروف، تؤدي الهويات الإثنية أو العرقية إلى تقسيم الجيش، لكن قد تكون عوامل الأيديولوجيا والانتماء الطبقي والنوع الاجتماعي أكثر تأثيراً في جيوش أخرى، وفي مطلق الأحوال، تبقى اللامساواة العسكرية مؤشراً قابلاً للقياس، وقد تنذر بأداء جيوش كاملة، أو تشكيلاتها الصغيرة، أو حتى وحداتها الفردية، في ساحة المعركة. على صعيد آخر، تكثر البيانات المفيدة حول معنويات الجيش وتماسكه، وقد يتذمر الجنود من المسائل التي تزعجهم على مواقع التواصل الاجتماعي، بما في ذلك «فيسبوك»، و«إنستغرام»، و«تلغرام»، و«تيك توك»، و«تويتر»، حيث يمكن استعمال هذه المنشورات لتقييم معنويات العناصر بشكل عام، وحجم انعدام الثقة في صفوف الجيش، ومستوى دعمه للحكومة، حتى ان منشورات الجنود قد تكون موسومة جغرافياً ومتّصلة بقواعد معينة. يمكن استعمال الاستطلاعات أيضاً كأداة فاعلة لتقييم الجيوش، وقد طرحت الاستطلاعات داخل الجيش الأفغاني مؤشرات مبكرة حول وجود اضطرابات إثنية، وتراجع الدعم للنظام، وعدم استعداد عدد كبير من الجنود للموت دفاعاً عن الحكومة.في غضون ذلك، قد تشوّه اللامساواة طريقة تجنيد العناصر في الجيوش ونشرها في مختلف المواقع، إذ غالباً ما تعمد الجيوش التي تكثر فيها مظاهر اللامساواة إلى تجنيد عناصر من جماعات مهمّشة، طوعاً أو قسراً، لحماية النظام من أي مشاعر معادية للحرب محلياً. تعثّر الغزو الروسي لأوكرانيا جزئياً لأن البلد اتكل على جنود ينتمون إلى أقليات غير روسية مترددة، وجنود متعاقدين انتهازيين من قيرغيزستان، ومجندين روس مخدوعين يأتون من مناطق فقيرة وبعيدة.كانت العمليات الهجومية الأمامية وغير المنسّقة في معظمها نتيجة مباشرة لاختيار جنود منتمين إلى جماعات يسهل التخلص منها، أضافت روسيا هؤلاء المجندين غير المدرّبين إلى الفريق اللوجستي التابع للجيش، ما أدى إلى استنزاف خطوط الإمدادات وهجر الدبابات والهرب من ساحة القتال. يمكن جمع أدلة وافية حول نقاط الضعف المحتملة عبر تحديد أماكن انتشار الجنود المهمشين أو الوحدات التي تفتقر إلى المجندين.أخيراً، قد تنشر مظاهر اللامساواة العسكرية مشاعر البغض بين الجنود والمسؤولين عنهم، حيث تختار الجيوش في هذه الحالة ضباطها من جماعات جديرة بالثقة سياسياً وتُخفّض رتبة العناصر غير الموثوق بهم. كذلك، تكثر المضايقات ومظاهر سوء المعاملة في الجيوش المنقسمة. يفرض الضباط سلطتهم عن طريق الترهيب والعنف، وتزدهر الأنظمة القانونية العسكرية غير المنصفة، وتكثر العقوبات خارج نطاق القضاء. غالباً ما يكون الفساد جزءاً من مؤشرات اللامساواة، إذ يسيء الضباط استعمال سلطتهم لسرقة جنودهم. في النهاية، يسهل تخفيض ميزانية الصيانة والمعدات أو سرقة الأجور إذا كان الضباط يعتبرون جنودهم أقل مستوى منهم، وهذا النوع من الإخفاقات يضعف فاعلية الجيش ويمكن رصده قبل بدء الحرب.لن يكون تعقب مظاهر اللامساواة في صفوف الجيوش حلاً سحرياً لجميع المشاكل، بل يجب أن يأخذ المحللون القدرات العسكرية بالاعتبار أيضاً. لا مفر من أن تؤثر الانقسامات والشكوك ونتائج الحرب المتوقعة على التحليلات، حتى لو كانت من أفضل التقييمات التي تسبق الحرب، لكنّ إضافة عامل اللامساواة العسكرية إلى التقييم العام قد تُحسّن دقة التحليل الذي يشمل كلفة التكنولوجيا المتطورة، مثل قدرات الأقمار الاصطناعية الجديدة أو العمليات الاستخبارية السرية المبنية على اعتراض الإشارات. باختصار، لا يمكن تجاهل تأثير الانقسامات الاجتماعية وهوية العناصر على الأداء العسكري. يجب أن تشمل النماذج العسكرية إذاً العناصر البشرية المشارِكة في الحرب، وإلا فلا مفر من وقوع مفاجآت غير سارة في ساحة المعركة.* جايسون ليال
Foreign Affairs
عدد الجنود في القوات الأفغانية كان يفوق مقاتلي حركة «طالبان» لكنهم عجزوا عن تحويل هذا التفوق العددي إلى انتصار ملموس
كلما زاد عدد الجنود المنتمين إلى جماعات مُهمَّشة ساء أداء الجيش في ساحة المعركة
كلما زاد عدد الجنود المنتمين إلى جماعات مُهمَّشة ساء أداء الجيش في ساحة المعركة