تتمتع غانا بسمعة ممتازة باعتبارها من أنجح الدول في القارة الإفريقية، وقد وقّعت للتو على عقد بقيمة 3.2 مليارات دولار مع اتحاد دولي لإعادة تأهيل خط سكك حديد معطّل بين مدينتها المرفئية الغربية (تاكورادي) وثاني أكبر مدينة فيها (كوماسي). ومن خلال إعادة تشغيل هذا الطريق الممتد على 210 أميال، ستتمكن غانا من إيصال المعادن والسلع التي تنتجها إلى الأسواق الدولية بسهولة. قبل أن يصبح ذلك الخط غير صالح للعمل في 2006، نتيجة سنوات من الاستخدام المكثف والصيانة الشائبة، كان يُستعمَل لنقل الماغنسيوم الخام والبوكسيت والكاكاو غير المُعالج، فيكسب البلد مداخيل كبرى من الصادرات بالدولار، على أن تُستعمَل هذه الأموال لتفعيل جهود التنمية محلياً. للوهلة الأولى، يبدو هذا العقد إثباتاً على تقدّم بلدٍ يسعى إلى زيادة ازدهار شعبه الذي يشهد نمواً سكانياً سريعاً.
لكنّ هذا النوع من الأخبار الإيجابية ظاهرياً يطرح أسئلة عميقة ومقلقة يتردد صداها خارج هذا البلد الصغير، إذ يسهل أن تنعكس التطورات هناك على القارة الإفريقية كلها وعلاقتها بالاقتصاد العالمي.في ديسمبر 1982، خلال عهد الرئيس الغاني جيري رولينغز، شهد البلد تحولاً جذرياً في سياسات الإدارة الاقتصادية، حيث تخلى عن محاولات القادة السابقين تحقيق أهداف مثل بناء الاشتراكية، وتخفيف الاتكال المالي على الغرب، والحد من الواردات لتشجيع الصناعة المحلية، وفرض قيود حكومية على أسعار سلع كثيرة، حيث أدى التحول الجذري في وجهة غانا إلى انفتاح البلد على النظام الاقتصادي الدولي الذي يقوده الغرب.في نهاية الثمانينيات، اعتادت غانا على تلقي أكثر من 700 مليون دولار على شكل «مساعدات تنموية» سنوياً، وكانت معظم تلك الأموال تأتي من الدول الغربية الغنية، ومن مؤسسات مثل البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ثم تابعت السياسات المتبدّلة التي أقرّها رولينغز وقادة آخرون جذب الدعم المالي من الغرب، وسرعان ما حسّنت صورة غانا على الساحة الدولية، فباتت تُعتبر «نجمة» الاستراتيجيات التنموية التي يطبّقها الغرب مع الدول المتخلفة اقتصادياً.لم يكن نمو غانا حدثاً مفاجئاً وعابراً أو سراباً تتمسّك به الدول الغربية، كما يقول الكثيرون، لأنها تحتاج إلى قصة نجاح ظاهرية لإقناع الآخرين بأن التعديلات البنيوية وغيرها من السياسات النيوليبرالية ممكنة في القارة الإفريقية.بالكاد كان نصيب الفرد من إجمالي الدخل القومي يتحرك خلال الثمانينيات، لكنه سجّل قفزة كبيرة بحلول القرن الجديد، فارتفع من 258 دولاراً للفرد الواحد في عام 2000 إلى 2400 دولار اليوم، وفق بيانات البنك الدولي. خلال الفترة نفسها، تراجع مستوى الفقر المدقع في غانا سريعاً، وقد يقتصر على 4.5 في المئة من السكان بحلول 2030 وفق بعض التقديرات، علماً أنه يبلغ اليوم 12.5 في المئة. لكن وراء هذا التقدم الواضح الذي حسّن مرتبة غانا على قائمة «الدول متوسطة الدخل»، تتعدد الأسباب التي تدفعنا إلى التشكيك بفرص الالتزام بالتوصيات التنموية الغربية النموذجية في دول مثل غانا على المدى الطويل.بقيت النظرية الكامنة وراء تلك التوصيات ثابتة على نحو لافت: يجب أن تُركّز البلدان الفقيرة التي تفتقر إلى الرساميل اللازمة لإحراز التقدم على إنشاء الصادرات في المجالات التي تتفوق فيها على غيرها. لتحقيق التنمية المنشودة، يجب أن تحافظ هذه الدول على انضباط مالي صارم، وتجمع أكبر قدر ممكن من الرساميل لاستيراد التكنولوجيا من دول أكثر تقدماً، وللقيام باستثمارات مدروسة في قطاعات مُنتِجة.وفق هذه النظرية، يُفترض أن يبدأ البلد الذي يتابع تطبيق هذه المقاربة بسدّ الفجوة التي تفصله عن أجزاء العالم الأكثر ازدهاراً، ما يسمح له بتقديم الثروات والفرص إلى مواطنيه.في جميع الحالات تقريباً، تكمن المزايا التنافسية التي تتمتع بها البلدان الملتزمة بهذه المقاربة في قطاع المواد الخام المشتقة من الصناعات الاستخراجية، مثل التعدين وإنتاج السلع الزراعية. فيما يخص غانا، يُعتبر الكاكاو والذهب من أهم المواد على الإطلاق، علماً بأن كل واحد منهما جزء من تاريخ البلد الاقتصادي.لا يزال الذهب والكاكاو من أركان الاقتصاد الأساسية في غانا حتى اليوم، لكن أضاف البلد في السنوات الأخيرة سلعة ثالثة محورية إلى اقتصاده، فراح ينتج النفط في 2010. بدأ حقل تحت الماء، قبالة الساحل الغربي، عمليات الإنتاج حينها. يشير اسمه «جوبيلي» إلى انتشار موجة قوية من التفاؤل في تلك الحقبة من تاريخ غانا، فقد حمل الكثيرون آمالاً كبرى حول مساهمات النفط في تحقيق التنمية المنشودة في البلد. منذ ذلك الحين، تم تشغيل حقلَين آخرَين وسرعان ما أصبحت غانا ثامن أكبر مُنتِجة للنفط في إفريقيا.لكن في المنطقة الغربية التي تنتج صادرات النفط في غانا، تشمل هذه المساحة عدداً من أسوأ الطرقات في البلد، وتنتشر بؤر مسيّجة تابعة لشركات دولية للهندسة والمعدات الثقيلة، وهي على صلة بعمليات الاستخراج المستمرة. لكن بدا وجود هذه البؤر بعيداً كل البعد عن حياة سكان المنطقة الذين يجتمعون للعمل في أسواق مغبرة وغير رسمية أو يقفون على طرف طرقات ترابية وعرة.لكنّ أسوأ جانب على الإطلاق يتعلق بوضع الأنهار هناك. كانت مياه هذه الأنهار صافية في الماضي، لكنها أصبحت اليوم موحلة وبنّية اللون بسبب عمليات التنقيب عن الذهب التي بدأت مع المهاجرين الصينيين، كما يقول سكان المنطقة، لكن يقوم بها اليوم مسؤولون محليون وعصابات إجرامية. تنشط هذه الأعمال انطلاقاً من منصات عائمة تستعمل معدات لامتصاص الوحل من أسفل النهر ثم تنخله بحثاً عن الذهب الغريني، لكنها تعيد رواسب المخلفات الثقيلة إلى النهر مباشرةً حيث تخنق الحياة النباتية والحيوانية على حد سواء.بعبارة أخرى، طغت عمليات الإنتاج لصالح أطراف تقع في أسواق بعيدة على إحراز تقدّم ملموس في حياة المواطنين العاديين. في غضون ذلك، لا يتحول إلا جزء ضئيل مما ينتجه البلد من وضعه الخام إلى منتجات أخرى محلياً. ينطبق ذلك مثلاً على مادة البوكسيت التي أراد كوامي نكروما، أول زعيم للبلد، أن يحوّلها إلى ألمنيوم، أو الكاكاو الذي يتحول إلى شوكولا يلتهمها الناس بكميات متزايدة في الدول الغنية.ينجم جزء من مشكلة غانا طبعاً عن عوامل أخرى مثل سوء تنفيذ السياسات، أو مظاهر الفساد، أو قلة الموظفين المدرّبين في بعض المجالات الإدارية، أو غياب الخبرة التقنية التي تبقى أساسية لإحراز التقدم الاقتصادي المنشود. لكن تُعتبر هذه العوامل جزءاً بسيطاً من المشكلة الحقيقية.اكتسبت غانا «نجوميتها» مقارنةً بالدول الأخرى، لأنها التزمت بخطة التنمية التي أوصى بها الغرب. لكن لا مفر من التشكيك بصوابية التوصيات التي تلقاها البلد في العقود القليلة الماضية، لأن هذه المقاربة لم تُحسّن فرص غانا في قطاع التصنيع ولم ترفع مستواها في «سلسلة القيم» من خلال تحويل منتجاتها. الأسوأ من ذلك هو انعكاس هذا الوضع على طبيعة الفرص البنيوية في الاقتصاد العالمي وانفتاح البلد على مئات ملايين الناس في القارة الإفريقية التي تشمل أكبر عدد من الاقتصادات الأقل نمواً في العالم.لا تزال المساحة المخصصة لمعظم «قصص النجاح» الإفريقية المزعومة محدودة في الاقتصاد الدولي، وهي تنحصر في قطاع استخراج المواد الخام، ونادراً ما يعترف أحد بالتكاليف البيئية لهذا النموذج أو محدودية الموارد المستعملة. تبلي غانا حسناً في ظل هذه الترتيبات الجهنمية، وقد يكون هذا الجانب الأكثر اضطراباً في المساحة التي تُعرَف باسم «العالم النامي».يقول برايت سيمونز، واحد من أبرز المحللين السياسيين والاقتصاديين في غانا، إن التعلّم الفاعل يعني التمسك بالتفاؤل بشأن التغيير المرتقب، «حتى لو كنا نُجرّد البلد من أراضيه لتحقيق نمو اقتصادي ظاهري». لكن ماذا عن بلدان تشوبها أسوأ مظاهر سوء الحُكم، مثل جمهورية الكونغو الديمقراطية، حيث تدمّرت الأراضي لإنتاج معادن نادرة تصل في نهاية المطاف إلى الهواتف الخليوية والمحولات الحفازة، أو نيجيريا وموزمبيق، حيث ترتفع قيمة إمدادات الغاز والنفط المحلية في الشمال العالمي؟تبدو لعبة الاقتصاد الدولي مُعدّة كي تصبّ في مصلحة الدول الغنية اليوم بقدر ما كانت عليه حين تمسّكت بريطانيا بإمبراطوريتها التي وصلت إلى مراحلها الأخيرة غداة الحرب العالمية الثانية بهدف تمويل كلفة تعافيها. ستتابع أكثر الدول ازدهاراً تلبية حاجاتها إلى الوقود والمعادن والسلع من أضعف البلدان (يتركّز معظمها في إفريقيا)، ما يؤدي إلى تدمير البيئة هناك، وتبنّي سلوكيات اقتصادية عدائية لا يمكن أن تتقبّلها الدول الغنية محلياً.حان الوقت إذاً كي يتوصل البشر إلى اتفاق جديد لصالح أضعف دول العالم: يُفترض أن يعرض هذا الاتفاق تقاسم مكاسب الاقتصاد الدولي بطريقة شاملة وأكثر إنصافاً. لكن إلى حين حصول ذلك، يجب أن نتوقف عن اعتبار النظريات النموذجية المرتبطة بالتنمية الدولية مساراً يضمن ازدهار الدول الفقيرة.• هاورد فرانش
دوليات
نجاح غانا يفضح نموذج التنمية الغربي السام
05-08-2022