روسيا بين خيارين
لا يمكن فهم خلفيات الصراع الدموي الناشب بين جمهوريتَي روسيا وأوكرانيا، دون وعي بالصراع الأيديولوجي بين نمطَي الاقتصاد الاشتراكي، والرأسمالي الاحتكاري، الأول تتزعم جبهته «الاشتراكية» روسيا والصين والمعسكر الموالي لهما، بينما تتبوأ المعسكر الرأسمالي الولايات المتحدة الأميركية وفي ظلّها حلفاؤها الغربيون (مجموعة الدول السبع الكبرى). بمقاربة مبسّطة نرى أن انهيار الاتحاد السوفياتي وتفكك جمهورياته لم يكونا بسبب مثالية المبدأ الاشتراكي اجتماعياً واقتصادياً، بل إن نجاحاته الهائلة، وبالتحديد منذ الثورة الشعبية عام 1917 حتى عام 1963 أثمرت تقدّماً صناعياً هائلاً وصعوداً ملحوظاً للفئات الشعبية.لكن «تحجّر» المشروع الاشتراكي الاجتماعي، وثبات الاشتراكية على نمط «اشتراكية الدولة» ثبّطا الجهود الثورية وسهّلا النكوص للرأسمالية التي كانت بشائرها قد بدت أواخر المرحلة القيصرية التي كانت تحكم روسيا قبل ثورة البروليتاريا.
بعد تفكك الاتحاد السوفياتي عام 1991، لم تعد روسيا اشتراكية صراحةً، والشعارات التي تم رفعها هي فقط مبرّرة لشرعية النظام على خلفية ثورة 1917، وتخلّت أجنحة قياداتها المتصارعة عن واجبها النضالي الإنساني والولاء الوطني، ورفعت شعار «المصالح البرجوازية أولاً»، وقبلت بالتبعية للرأسمالية العالمية، التى اعتبرتها - بعجرفة - منطقة تخومية مصدّرة للبترول والغاز وسوقاً استهلاكياً لها. سقطت «رأسمالية الدولة الهشّة» في الاتحاد السوفياتي وليس الاشتراكية المزعومة، وأدرك الرئيس الروسي بوتين، متأخراً، الرغبة المكبوتة والجامحة للقوى الرأسمالية الإمبريالية في تحطيم روسيا. وقع بوتين بين سندان المرحلة الشيوعية التي تم التخلي عنها مع الإصلاحات المزعومة للرئيسين غورباتشوف ويلتسين، التي أنهت تماماً مرحلة الاشتراكية الشعبية، وفككت اتحاد الجمهوريات السوفياتية، رغماً عن شعوبها، وبين مطرقة رأسمالية الدولة، ثم التخلي عنها لمصلحة الأوليجاركية الكمبرادورية. ما يقوم به الرئيس بوتين الآن هو تدمير ممنهج لما تم إنشاؤه وتعميره في جمهورية أوكرانيا أثناء نظام الحكم الاشتراكي، وهذا ما تصبو إليه القوى الرأسمالية العالمية، تدمير موازين القوى في دول الأطراف، والقضاء نهائياً على كل ما يهدد التمدد الأيديولوجي والعسكري للقوى الرأسمالية أينما حلّت.