النوم عند حافة الانفجار
جاء النهار والاستعدادات على قدم وساق لإحياء المناسبة أو التذكير بها في مدينة تغرق كثيرا في ظلمات فقدان الكهرباء وكل وسائل التواصل، رغم أن شواطئها تعج باليخوت الفاخرة لأصحابٍ هم إما من رجال المال أو رجال السياسة، وهما في هذا البلد متقاربان أو متزاوجان، رغم أن الأديان وبعض الحكام الأُول قالوا إما الحكم أو التجارة، فلا يجوز أن تكون حاكماً وتتاجر. شيء ما يدفعك للبعد عن متابعة المحطات المحلية والإقليمية التي لم تتوقف منذ الصباح عن متابعة الأحداث والفعاليات المعنية بتذكير العالم بأن هذه الجريمة، أو ذاك الذي يفضل البعض تخفيفه إلى استخدام تعبير «انفجار المرفأ»، لا تزال غامضة أو في طي أدراج المحكمة هناك في مكان ما بمكاتب ما في بقعة ما من بقايا هذه المدينة.ابتعدت عن بلكونة شقتها المطلة على الانفجار بل الجالسة عند قدميه وراحت تشغل نفسها بكثير من القراءات وبعض الأعمال الصغيرة التافهة... فجأة تأتي الأصوات العالية من الجزء الآخر من شقتها، أي من ناحية الطريق الداخلي للجميزا، أغاني ماجدة الرومي وجوليا بطرس وآخرين حول بيروت وعنها ولها! يعلو الصوت حتى يصبح وكأنه قادم من مكبرات صوت تجلس تحت غرفة نومها... تبتعد أو تهرب من غرفة إلى أخرى إلى المطبخ وكلها تقربها أكثر من ذكريات تصورت هي أنها دفنتها في مكان معتم أو مهمل من الذاكرة... هل نسيت أو تناست؟ كيف تستطيع والآثار على وجه المدينة الجميلة وعلى وجوه أهلها لا تزال باقية كباقي الوشم؟!
يناديها صوت بل أصوات وتكثر دقات هاتفها حاملة الرسائل معظمها تقول «تنذكر لا تنعاد» أو كل عام وأنت بخير في عيد ميلادك الثاني... قبل أيام صفت الملصقات بوجوه الضحايا وهي ليست لكل الضحايا فوق أعمدة الإضاءة بالشارع المقابل للمرفأ حتى أصبح من الصعب أن يحاول الفرد الهروب إلى مكان ما إلا إذا غادر المدينة، وربما لبنان كله، وحينها هل سيملك القدرة على النسيان أو تناسي ذاك الرابع من أغسطس؟! بدأت الحشود تسير تحت حرارة شمس الظهيرة كلها متجهة نحو مكان بعينه مقابل مدخل الميناء عند إحدى بواباته واكتظ الشارع بسيارات الإسعاف والأمن، وزاد عدد الصحافيين والمصورين وتداعى الجميع رغم انقسام أهالي الضحايا بعد عامين من الكارثة، حتى في الوجع استطاعت السياسة وربما الطائفة أن تقسم المتحدين في ذلك الوجع! فكان أن تجمعت فئة هنا وأخرى هناك، ولكن بقي الحدث هو الأكثر وضوحا في الصورة والذاكرة مع إعادة شريط الذكريات والشخوص التي إما لقيت حتفها، أو التي بقيت ولا تزال، تناضل لمحو بقايا آثار الانفجار المادية أو النفسية... لم تتوقف الموسيقى والأصوات القادمة من بعيد إلى جانب اندلاع الحريق مرة أخرى في اهراءات القمح أو ما تبقى منها فقد سقطت أجزاء نتيجة الحريق قبل يومين، وكأن الطبيعة أو أحدهم يريد أن يعيد التذكر بالصورة والحدث حتى لو لم يكن بنفس الدرجة... قدمت مروحيات الجيش لصب الماء أو الرمل على الحريق في محاولة لإطفائه، لكن كان أكثر عنادا وبقي مشتعلاً حتى بعد أن رحلت الجموع عندما رحلت الشمس عائدة إلى مسكنها. كثرت الكلمات كما بدا من المحطات الناقلة للأخبار، نعم لم تستطع أن تقاوم المتابعة، فكان أن راحت تقلب بين المحطات العديدة، كل واحدة تروي الأحداث، حسب مالكيها أو مموليها أو مُسيسيها، فأكبر كارثة عربية اليوم أنه لا جهة إعلامية محايدة أو على الأقل تدعي الحياد، ليس في هذا البلد الذي كان يرحب ويطبع كتب كل العرب على اختلافهم في الفكر والتوجه ولا حتى في الدول الأخرى التي كانت ولا تزال هي الأكبر في عدد السكان والمفكرين ووووو.عند السادسة وثماني دقائق توقفت الخطابات والموسيقى، وكان أن وقف الجميع دقيقة صمت حداداً على الضحايا... كم دقيقة صمت سيقفون وسنقف وعلى كم ضحية هنا وهناك وكم سنين ستمر قبل أن تدفن الجثث ويؤخذ العزاء ويقفل فصل البكاء المفتوح؟ بعدها بقليل وما إن انتهت دقيقة الصمت حتى بدأت النيران تنخر فيما تبقى من أهراءات القمح وراحت الجدران تسقط فيتطاير غبار كثيف، ويدعو المعنيون كل المجتمعين إلى الابتعاد فيتفرق الجمع وينتهي اليوم الحدث، ويعود كلٌّ يلملم جراحه، وحده من ذاق ألمها يعرف أن هذا الوجع سيستقر معه ومعها حتى آخر نفس... ولم تعرف المدينة أن تنام في تلك الليلة، وهي تنام عند أقدام الانفجار. * ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية
خولة مطر
كم دقيقة صمت سنقف وعلى كم ضحية هنا وهناك وكم سنين ستمر قبل أن تدفن الجثث ويؤخذ العزاء ويقفل فصل البكاء المفتوح!