منذ ربيع عام 2022، تجتاح قوة جديدة ومرعبة المجتمع الروسي، يتعرض الناشطون الذين احتجوا على «العملية الخاصة» في أوكرانيا للاعتقال، ويُساق معارضو النظام والمواطنون العاديون الذين يتواصلون مع جهات خارجية غير مصرّح بها إلى سجن «ليفورتوفو» في موسكو، حيث تعرّض المعتقلون السياسيون في عهد ستالين للتعذيب والإعدام. في الوقت نفسه، يتولى فريق خاص من العملاء على الحدود استجواب وترهيب أي روسي يحاول المغادرة أو العودة، لكن لم يصبح من غادر البلد بأمان، إذ يخضع المنفيون الذين رفعوا الصوت ضد النظام للتحقيق ويتعرّض أقاربهم في روسيا للمضايقات، كذلك، تعمد شرطة الأمن إلى قمع الشركات الروسية التي تشتري المواد الخام والمعدات الأجنبية بدل المنتجات الروسية.
ومع دخول حرب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين شهرها السادس، حصل تحوّل جذري في الإجراءات البيروقراطية الأمنية التي يطبقها الكرملين، إذ يصبّ التركيز اليوم على أقرب وكالة إلى بوتين شخصياً: جهاز الأمن الفدرالي الروسي. حين بدأت الحرب، كان الكرملين يخطط للاتكال على هذه الوكالة في أوكرانيا باعتبارها قوة فاعلة لتنفيذ العمليات الخاصة وترسيخ انتصار روسي سريع، وفق الخطة الأصلية، كانت الدبابات الروسية التي تجتاح أوكرانيا لتُغيّر النظام في كييف، فتسيطر قيادة جديدة وموالية لموسكو على البلد، بدعمٍ من خبراء التجسس في جهاز الأمن الفدرالي. في تلك الفترة، كان فرع الاستخبارات الأجنبية في الجهاز الأمني ليُكلَّف بهذه المهمة،واعتُبِر هذا الفرع القسم الأساسي الوحيد المرتبط بتحضيرات الحرب مباشرةً من أصل 12 فرعاً آخر.لكن بعد فشل تلك الخطط، صمّم بوتين مهمة مختلفة وشاملة لجهاز الأمن الفدرالي، فجعله في طليعة الجهود الحربية الروسية محلياً وعلى رأس العمليات الاستخبارية في أوكرانيا أيضاً، ومن المتوقع أن تتدخل جميع فروع الجهاز الأمني الآن. تتولى وحدة مكافحة الإرهاب وخدمة مكافحة التجسس وقسم التحقيقات في جهاز الأمن الفدرالي حملات القمع الجديدة في روسيا، وفي غضون ذلك، تدير القوات الخاصة وفرع مكافحة التجسس في الجهاز الأمني العمليات التي تستهدف القوات الأوكرانية المسلحة في الأراضي المحتلة وأماكن أخرى، بما في ذلك تجنيد عملاء أوكرانيين وتحديد كل من يريد جهاز الأمن الفدرالي مقاضاته عبر محاكمات صُوَرية.يتمركز عملاء جهاز الأمن الفدرالي على الحدود الروسية، وتعمل خدمة الأمن الاقتصادية التي تُعتبر الأكثر فساداً على تفعيل السياسات الاقتصادية الروسية. وفي مقر جهاز الأمن الفدرالي في ساحة «لوبيانكا» في موسكو، طُلِب من العناصر في أدنى المراتب الاستعداد لجولات مدتها ثلاثة أشهر لأداء واجباتهم في الأراضي المحتلة، فيما يطلق جهاز الأمن الفدرالي إجراءات بيروقراطية حكومية متبدّلة ومرتابة ومبنية على تدابير أمنية مشددة، يؤثر هذا التحول بشدة على طبيعة نظام بوتين. وعلى عكس الوكالة التي كانت تتكل على المراقبة في السنوات السابقة، أصبح جهاز الأمن الفدرالي ذراعاً أكثر توسّعاً لدولة تزداد وحشية، وفيما يسعى هذا الجهاز إلى اختراق المجتمع المحلي والشؤون الخارجية والجيش، لم يعد يشبه الاستخبارات السوفياتية الغابرة، بل بات أقرب اليوم إلى كيان أكثر رعباً: المفوضية الشعبية للشؤون الداخلية، أي شرطة ستالين السرية التي نفّذت حملات التطهير الكبرى خلال الثلاثينيات وأحكمت قبضتها على المجتمع الروسي حتى السنوات الأولى من الحرب الباردة.حصل أكبر تغيير في تكتيكات جهاز الأمن الفدرالي داخل أوكرانيا، فقبل اندلاع الحرب هناك، كان دور هذه الوكالة يتمحور بشكلٍ أساسي حول تجنيد سياسيين أوكرانيين، لكنها تدير اليوم عملية واسعة لاعتقال أعداد هائلة من الأوكرانيين في روسيا والأراضي المحتلة في أوكرانيا. لا تهدف هذه العملية في المقام الأول إلى فضح الإرهابيين الأوكرانيين، كما يزعم جهاز الأمن الفدرالي رسمياً، بل إنها تراجع ملفات أعداد كبيرة من الأوكرانيين لتجنيد العملاء وإرسالهم إلى أوكرانيا مجدداً لتنفيذ أوامر جهاز الأمن الفدرالي. في غضون ذلك، لم يهمل هذا الجهاز مساعيه الوحشية لملاحقة عملاء الاستخبارات الأوكرانية والوحدات التي دافعت عن منشأة «آزوفستال» للحديد والصلب ضد حصار فرضته القوات الروسية طوال 82 يوماً في الربيع الماضي، سيق هؤلاء الأوكرانيون إلى سجن «ليفورتوفو»، إلى جانب الروس المتّهمين بخيانة الدولة.ويطرح دور جهاز الأمن الفدرالي الجارف والمستجد أسئلة متزايدة حول طبيعة نظام بوتين.يعرف الجميع منذ سنوات أن بوتين صمّم أجهزته الأمنية انطلاقاً من الممارسات السوفياتية، بما في ذلك الإجراءات السائدة في الاستخبارات السوفياتية حيث أمضى حوالى 16 سنة. وخلال معظم مراحل عهد بوتين، لا سيما في السنوات الخمس الماضية التي حاول فيها تقوية نظامه، أصبح نموذج الاستخبارات السوفياتية منطقياً بنظره، كانت هذه الاستخبارات في العقود الأخيرة من العصر السوفياتي منظمة صغيرة نسبياً، رغم قوتها، وفضّلت تطبيق مقاربة ضمنية لفرض سيطرتها، فراقبت جميع الناس وتجسست عليهم، بدءاً من عمّال المصانع وصولاً إلى راقصي الباليه، لكنها لم تحاول تنفيذ حملات تطهير أو اعتقالات واسعة النطاق، بل اتكلت على أشكال معقدة من الترهيب لإجبار الناس على الرضوخ من دون قمع جماعي.على مستويات أخرى، تأثّرت الاستخبارات السوفياتية أيضاً بالسياسات المعتمدة في حقبة ما بعد ستالين، بدل أن تخضع لسيطرة زعيم قوي واحد، أصبحت البيروقراطية الحل لجميع مشاكل الحزب الشيوعي. كانت هذه الوكالة منتشرة في كل مكان، لكنها بقيت خفية بشكل عام، كان الضباط في الاستخبارات السوفياتية يكرهون الزي العسكري ويفضلون البدلات الرمادية. في الوقت نفسه، بالغت الاستخبارات السوفياتية في التدخل في العلاقات العامة، فدعمت الكتب والأفلام التي تعتبرها أذكى كيان حكومي في البلد والوكالة الوحيدة القادرة على محاربة الفساد.اتكل بوتين خلال أول 15 سنة من عهده على جهاز الأمن الفدرالي الروسي لكنه حاول إبعاد نفسه عن الاستخبارات السوفياتية بدرجة معينة لقد أراد أن يجعل جهاز الأمن فريقه المختص بالاستجابة السريعة، فيهرع المسؤولون إليه وهم يحملون الحلول لمشاكله السياسية داخل روسيا وخارجها. لكن بعدما خيّب جهاز الأمن الفدرالي أمله في مناسبات متكررة (لم يحذّره مثلاً من الثورات الملوّنة، واحتجاجات موسكو، وأخيراً ثورة الميدان في كييف، في العام 2014)، غيّر بوتين القواعد المعمول بها. بدل إبقاء جهاز الأمن الفدرالي قوة للاستجابة السريعة، أقدم على تعديل تفويضه وجعله أقرب إلى الاستخبارات السوفياتية وحوّله إلى أداة لإرساء الاستقرار السياسي عبر ترهيب الشعب الروسي، بما في ذلك النُخَب. لكن تكشف التحركات الأخيرة أن بوتين بدأ يغيّر مساره مجدداً. بدل أن يشبه جهاز الأمن الفدرالي الاستخبارات السوفياتية في فترة السبعينيات والثمانينيات، بات أقرب إلى الأجهزة السرية في عهد ستالين، وتحديداً المفوضية الشعبية للشؤون الداخلية التي كانت تهدف إلى فرض سيطرة مطلقة على الشعب الروسي.كانت المفوضية الشعبية للشؤون الداخلية في عهد ستالين وحشية بمعنى الكلمةن صمّم ستالين هذه الوزارة عمداً كي تشرف على أجزاء واسعة ومتفرقة من الدولة السوفياتية، بما في ذلك نظام سكك الحديد الوطني، وبرنامج روسيا النووي، واغتيال أعداء ستالين في الخارج. وأشرفت هذه المفوضية أيضاً على عمل الشرطة، وعمليات التجسس، وحملات القمع السياسية، ومعتقل «غولاغ» (شبكة سوفياتية واسعة تتألف من معسكرات السخرة)، وحتى قطاع البناء والمرافق العامة. لتنفيذ حملات القمع الداخلية، بَنَت المفوضية الشعبية للشؤون الداخلية شبكة من المديريات في أنحاء البلد: كان التعامل مع هذا العدد الكبير من الهيئات يتطلب مستوىً عالياً من البيروقراطية الأمنية.على صعيد آخر، حملت تلك المفوضية طابعاً عسكرياً مفرطاً، لم يكتفِ ضباطها بارتداء الزي العسكري واستلام المناصب العسكرية، بل كانت الوكالة تشمل أيضاً وحدات عسكرية خاصة بها ومزوّدة بأسلحة ثقيلة مثل الدبابات والطائرات. وفي نهاية الثلاثينيات، حين أصبحت الحرب في أوروبا متوقعة أكثر من أي وقت مضى، أنشأت قوات المفوضية الشعبية للشؤون الداخلية معسكرات في الأراضي المحتلة في بولندا ودول البلطيق لتحديد هوية مثيري الشغب وتجنيد العملاء. كذلك، كُلّفت المفوضية بإطلاق حملة واسعة لإرجاع المنفيين الروس إلى روسيا في نهاية الحرب، كان هؤلاء الأشخاص هربوا من روسيا السوفياتية، واقتنع عدد كبير منهم بالعودة إلى بلده، لكن انتهى بهم الأمر في معسكرات ستالين. لهذه الأسباب وسواها، كانت المفوضية الشعبية للشؤون الداخلية مُصمّمة لخدمة نظامٍ يخوض حروباً متواصلة ضد أعدائه السياسيين، وضد رفاقه القدامى داخلياً وخارجياً، وضد الغرب، بدت المفوضية قوية ومرعبة لهذه الدرجة لأنها كانت تطيع أوامر ستالين وحده، لا الحزب الشيوعي أو الحكومة السوفياتية.منذ بدء الحرب في أوكرانيا، تشهد الدولة الأمنية التي أنشأها بوتين نمواً متسارعاً وتزداد شَبَهاً بالمفوضية التي كانت ناشطة في عهد ستالين، كذلك، تثبت عسكرة جهاز الأمن الفدرالي ومعسكرات التجنيد الجديدة فيه وتكتيكاته المفتوحة والوحشية أن بوتين يزداد تأثّراً بالمفوضية الشعبية للشؤون الداخلية، تلك الوكالة التي أسستها دولة توتاليتارية في زمن الحرب، من الواضح إذاً أن الكرملين يُحضّر البلد لخوض حرب طويلة.* أندريه سولداتوف وإيرينا بوروغان
دوليات
بوتين يؤسس دولة بوليسية جديدة
12-08-2022