تنص المادة (2) من الدستور على أن «دين الدولة الإسلام»، وتنص المادة (12) على أن «تصون الدولة التراث الإسلامي»، وقد تناولنا في مقالنا الأحد الماضي تحت هذا العنوان أول حلقة من هذا الموضوع، وقد بيّنا فيها كيف أحدث الإسلام ثورة حقيقية للعالم كله على مدى العصور والأزمان، لأنه كان أسبق من الثورة الفرنسية باثني عشر قرناً في المناداة بالحرية والإخاء والمساواة، ثم تناولنا حرية العقيدة وحرية إقامة الشعائر الدينية، ونتناول اليوم في هذا المقال الشورى فيما يلي.لم يقف الإسلام موقف الديانة المسيحية السلبي من شؤون الحكم، والتي طالبت أتباعها بأن يدعوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله، فقد كانت دعوة السيد المسيح مجرد مبادئ خلقية للتهذيب الروحي للمجتمع المادي الذي كان غارقاً في الماديات، ومع ذلك كانت لرجال الكنيسة في أوروبا سلطات لا تقل عن سلطة الحكام، وأصبح الحكام يستعينون بسلطة الكنيسة لانتهاك الحريات، وقد نصب اليهود أنفسهم شعب الله المختار، ليستعبدوا غيرهم، وكان أرسطو (384 ق.م)، وهو من أكبر المفكرين الذين عرفتهم الإنسانية في كل العصور، يرى أن الفطرة هي التي أرادت أن يكون البرابرة عبيداً لليونانيين، وقرر قبل ماركس، أن الصراع بين الأغنياء والفقراء هو سبب الثورات.
وقد كان مصدر سيادة الحكم الفردي هو إرادة القوة، ثم الحق الإلهي للملوك، ثم الكنيسة التي أصبحت تطغى على سلطة الملوك، والذين مارسوا سلطاتهم بعنف وقسوة بعد تحررهم من طغيان الكنيسة.فالإسلام لا يعرف الحكومة الدينية أو السلطة الدينية للحاكم بالمفهوم الذي ساد في الغرب المسيحي، الذي كان ملوك أوروبا يستندون في حكمهم إلى التفويض الإلهي.وقد جاء القرآن الكريم بأصل ثابت وأساسي في شؤون الحكم في الآية الكريمة «وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ» (الآية 159 من سورة آل عمران) وفي الآية الكريمة «وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ» (الآية 38 من سورة الشورى) وبهذا قرر الإسلام مبدأ الشورى، أساساً للحكم وللولاية العامة وضمانة لحقوق الإنسان وحرياته، وأساساً للسلام الاجتماعي والتضامن بين أفراد الجماعة، بما يحقق تداول السلطة السلمي، دون عنف أو إراقة دماء حتى لا تكون فتنة بين المسلمين، ويلاحظ في سياق تفسير هاتين الآيتين أن الآية الأولى وهي مدنية ونصها «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ» (الآية 159 من سورة آل عمران)، وقد نزلت قبل نشأة دولة الإسلام، والرسول يدعو إلى دين الحق، ليقنع قومه به، فهي أمر من المولى عز وجل لرسوله ونبيه صلى الله عليه وسلم بالتشاور مع قومه حتى لا ينفضوا من حوله وتذهب دعوته هباء منثوراً.الأمر في النهاية كما يقرر دكتور مصطفى أبو زيد فهمي مرده إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فهو الذي يعزم وهو الذي يقرر بعد التشاور وأخذ الرأي، لا يقيده في ذلك إلا مقاصد الشريعة وأحكامها، وهو رسول مكلف بتبليغ ما يوحى إليه، وهو يفسر النصوص القرآنية باجتهاده، طالما لم تنزل عليه آية قرآنية أخرى تعدل من هذا الاجتهاد أو تبطله، ويقوم هذا التشاور على حرية الرأي والاختيار التي هي من خصائص وفطرة الإنسان التي خلق بها.أما الآية الثانية «وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ» (الآية 38 من سورة الشورى) فهي آية حكيمة نزلت بعد نشأة الدولة الإسلامية، فهي خطاب موجه إلى الأمة بأسرها بأن يديروا شؤونهم بأنفسهم وبالتشاور فيما بينهم لاتخاذ القرار الصحيح، الذي تصل إليه الجماعة، فكلمة الأمر، تعني القرار ولا تقتصر على تبادل الرأي وأخذ النصيحة، يقول المولى عز وجل «وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ» وقد روي عن الرسول عليه الصلاة والسلام قوله «إن أمتى لن تجتمع على ضلالة، فإذا رأيتم اختلافاً فعليكم بالسواد الأعظم» وهو المعنى ذاته الذي أكده أبرز علماء الأصول المعاصرين. ومما كتبه أستاذنا الدكتور محمد يوسف موسى في هذا الصدد أن مصدر السيادة هو الأمة وحدها لا الخليفة، لأنه وكيل عنها في أمور الدين وفي إدارة شؤونها حسب شريعة الله ورسوله، وهو لهذا يستمد سلطانه منها، ولها حق نصحه وتوجيهه وتقويمه إن أساء، بل حق عزله من المنصب الذي وليه عنها باختيارها إن جد ما يوجب عزله فيكون من المنطق أن يكون مصدر السيادة هو الموكل الأصلي، لا النائب الوكيل.إعجاز القرآنفمن إعجازه أنه اكتفى بالآيتين الكريمتين في الشورى، وغيرهما من آيات تنهى عن الظلم والبغي وتأمر بالعدل والإحسان، ولم يتطرق الإسلام إلى التفاصيل المختلفة المتعلقة بشؤون الحكم، فلم يضع نظاماً متكاملاً للحكم قد يصلح لفترة من الفترات ولا يصلح لما بعدها، في مجتمعات تختلف قيمها ومقوماتها ومكوناتها التاريخية والواقعية ليكون صالحاً للتطبيق على مر الزمان وفي مختلف بقاع الكون.فلم تكن الشورى مجرد استجابة للحاجات المحلية الموقوتة في شبه الجزيرة العربية، إنما هي منهاج إلهي في الحكم يساير تطور البشرية كلها، ويواكب ما يستجد من أمور ووقائع وأحداث تقتضي إعادة تنظيم العلاقات التي تربط الإنسان بغيره من جماعات بشرية مختلفة الطباع والتكوين والمصالح، بما يقتضي إعادة صياغة أوضاعها وعلاقتها سواء فيما بين المحكومين أو فيما بينهم وبين الحكام وفقاً للتغيرات والمستجدات التي تطرأ على حياتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية يوماً بعد يوم من خلال الدساتير والتشريعات الوضعية التي تلبي هذا التطور محكومة دائماً بأصل ثابت إلهي هو الشورى.فمبدأ الشورى، الذي هو أساس الحكم في الإسلام يتسع لجميع نظريات الديموقراطية المباشرة، وغير المباشرة والتمثيلية، وأي نظام للحكم عدا أنظمة الحكم المستبدة والدكتاتورية، والتي ينفرد فيها الحاكم بالسلطة، يقول المولى عز وجل «كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى» (العلق 6، 7).وفي قصص القرآن الكريم ما يعزز رفض المولى عز وجل للحكم الفردي عندما تقول آياته البينات على لسان فرعون حاكم مصر «مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ» (يونس 92).وفي مقابلة ذلك، يقول المولى عز وجل في قصصه على لسان ملكة سبأ (بلقيس) «قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ» (النمل 32).الشورى والعقد الاجتماعيويتضح مبدأ الشورى في عقد الإمامة أو الولاية على نظرية العقد الاجتماعي التي صاغها فلاسفة الفكر الحديث على أيدي فلاسفته، هوبز ولوك وروسو، ولكن الإسلام يرفض أفكار هوبز عن السلطة المطلقة للحاكم بموجب هذا العقد، فعقب البيعة الأولى لأبي بكر بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام، يقف أبو بكر، ليحدد نهجه في الحكم ليقول فيه: «إني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني» ويختم كلمته بقوله «أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم»، فالحاكم في الإسلام مقيد بأحكام الشرع، وبالعدل ومصلحة الأمة.وينفتح نظام الحكم في الإسلام على النظام الرئاسي في الديموقراطيات التي تأخذ بهذا النظام، حيث يقوم الحاكم بتعيين الولاة كما يقوم رئيس الدولة بتعيين وزرائه ويكون الطرفان مسؤولين أمام الأمة عن شؤون الحكم كافة. ويرى الفقيه القانوني الراحل د. عبدالرزاق السنهوري أن عقد الإمامة هو عقد مستوفٍ لشرائطه القانونية، مبني على الرضا وهو المصدر الذي يستمد منه الحاكم سلطته، كنائب عن الأمة أو وكيلاً عنها بموجب هذا العقد (فقه الشورى).وقد دخل الإمام أبو مسلم الخولاني على معاوية بن أبي سفيان قائلاً له: أيها الأمير وأعادها ثلاثاً عندما اعترضه الحاضرون، فقال لهم معاوية، إن أبا مسلم يعرف ما يقوله.وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.
مقالات
في ظلال الدستور: الإسلام... الثورة الأعظم منذ فجر البشرية (2)
21-08-2022