الآن، تخرج ألمانيا من أرض الأحلام، ويقود الطريق حزب الخُضر، الصورة الرمزية الأبعد عن الواقعية، فقبل أربعين عاماً، نشأ الخُضر من العَدَم حاملين معهم أيديولوجية متشددة: لا أسلحة نووية أميركية، ولا طاقة نووية، ولا استخدام للقوة... سَمِّها «السلمية البيئية» أو «السلام فوق كل شيء».

في ثمانينيات القرن العشرين، حشد الخُضر الملايين ضد نشر الولايات المتحدة صواريخها المتوسطة المدى وأعاقوا العمل في المواقع النووية المدنية، لكن موقفك من الأمر يعتمد على الجانب الذي تؤيده. اليوم، أصبح حزب الخُضر أحد الأعمدة التي تقوم عليها الحكومة الائتلافية الألمانية الثلاثية الأحزاب، ويشغل زعيما الحزب أنالينا بيربوك وروبرت هابك منصبي وزيري الخارجية والاقتصاد على التوالي.

Ad

مثلهم كمثل الملكة البيضاء في رواية «ألِيس في بلاد العجائب»، كان الخُضر ذات يوم يؤمنون بقدرتهم على إنجاز مهام مستحيلة في فترة وجيزة، وكذا كانت حال معظم الألمان، فسوف تحصل ألمانيا على كميات وفيرة من الغاز الرخيص من روسيا، وسوف تُغلِق بأمان آخر ثلاث محطات لتوليد الطاقة النووية بحلول نهاية عام 2022، وتستعيض عن النفط والفحم بالطاقة الشمسية وطاقة الرياح.

وبوسع ألمانيا أيضاً أن تترك جيشها يبلى ويتفسخ، فتقلصه من 500 ألف إلى 180 ألفاً، وسوف يعمل الرايخ السابق «كقوة للسلام» مدينة بالفضل لثقافة إنكار الذات (العسكرية)، وسوف تعمل التجارة والاستثمار على ترويض روسيا وغيرها من المعتدين، وتسود الفضيلة المصنوعة في ألمانيا.

ثم انقض الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي أنزل بأوكرانيا قدراً لا يمكن تصوره من القسوة الوحشية، وبوغِت الحزبان الحاكمان التقليديان الديموقراطي الاجتماعي والديموقراطي المسيحي... هل نرسل الدبابات والمدفعية البعيدة المدى؟ لا ينبغي لنا أن نُغضِب الدب الروسي الذي كان آنذاك يزود ألمانيا بنحو 55 في المئة من استهلاكها من الغاز وهي أعلى حصة في الاتحاد الأوروبي، هل نلغي التحول إلى الطاقة الخضراء الذي فرضته المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل التي دامت ولايتها أربع فترات؟ مستحيل.

لكن قيادة الخُضر خضعت لانقلاب محير للعقول، فتحولت بسلاسة من السلمية إلى العدائية، من معاداة أميركا إلى معاداة بوتين، وبسرعة مذهلة. حدد هابك النغمة الجديدة: «لا ينبغي للأيديولوجيا أن تعترض سبيل إطالة عمر محطات الطاقة النووية». وبعد زيارة قامت بها إلى حقول القتل في أوكرانيا، تحدثت أنالينا بيربوك باسم الجميع: «كنا لنصبح محل هؤلاء الضحايا».

في عام 2015، حَذَّرَت بيربوك من أن بوتين قد يستخدم الغاز كسلاح، وفي أعقاب الغزو، قالت: «لقد استيقظنا في عالَم مختلف، ولا يجوز لنا أن نحني رؤوسنا ونتفادى المسؤولية، بل يجب علينا أن نتحمل المسؤولية».

بعد عودته من أهوال ساحة المعركة، دعا نائب البوندستاغ (مجلس العموم) الشاب روبن واغنر إلى تقديم أسلحة ثقيلة حديثة، بالإضافة إلى الدفاعات الجوية، والعربات المدرعة، وتكنولوجيا الاستخبارات. وحتى أحد كبار السن بين النواب، دانييل كوهين بنديت، الذي يبلغ من العمر 77 عاماً، تسامح مع الحرب: «أشعر بالألم لمجرد معاينة الواقع، وليس لاضطراري إلى مواجهته»، لكن الخُضر من أمثاله واجهوا الواقع، مما يجعلهم عند هذه المرحلة «الحزب الأكثر عقلانية في ألمانيا».

كيف يمكن حل لغز الحزب الذي تشبث لفترة طويلة بما يسمى «السلمية البيئية» باعتبارها ديانة علمانية؟ لماذا تتهم أنالينا بيربوك الرئيس الروسي بوتين «بانتهاك كل الاتفاقات التي صاغتها أوروبا لضمان السلام»؟ لماذا ينقلب الخُضر، الذين تعبدوا طويلاً على مذبح السلمية، على روسيا؟

يتمثل أحد الأسباب في ما يسميه الألمان «معيارية الحقائق»، أو كما كان جون ماينارد كينز ليعبر عن ذلك: «عندما تتغير الحقائق، أغير رأيي».

الواقع أن الحقائق أليمة، إذ يحاول بوتين استعادة الإمبراطورية السوفياتية القديمة، وبهذا يهدد حقبة غير مسبوقة من السلام في أوروبا دامت 77 عاماً. هل يأتي الدور على مولدوفا ودول البلطيق بعد أوكرانيا؟ الواقع أن البولنديين، الذين وقعوا ضحية لروسيا بشكل روتيني طوال التاريخ، لهم كل الحق في الخوف من جيوش بوتين المحتشدة على حدودهم الشرقية، مما ينذر بالسوء لجارة بولندا في الغرب، ألمانيا. وعلى هذا فإن المنطق الاستراتيجي يستلزم إعادة التسلح والردع، بالإضافة إلى تزويد أوكرانيا بالأسلحة الثقيلة أخيراً.

ولكن على الرغم من السياسة الواقعية، لا يزال الحرس القديم على اليسار متمسكاً بالحقائق العتيقة في السياسة الألمانية الشرقية. تَعاوَن، ولا تواجه. السلام يتفوق على القوة. دعونا نعط بوتين مخرجاً، دعه يحتفظ بمكاسبه حتى لا يفقد ماء وجهه ويلجأ إلى تصعيد الأمور. لن يؤدي تزويد أوكرانيا بالأسلحة إلا إلى إطالة أمد المذبحة، كما لو كانت أوكرانيا تقصف المدنيين الروس، والمدارس والمستشفيات الروسية. في تناقض صارخ، تُعلِن بيربوك: «إن كنت لا تشعر بالذعر (إزاء هذه الحرب العدوانية)، فإما أنك مضلل أو متبلد الحس».

التفسير الثاني يتعلق بالأجيال، لقد شب قادة الخُضر اليوم عن الطوق في عالَم حيث اعتاد الشياب أو الراحلون من أسلافهم على امتلاك السلطة السياسية والثقافية، بعد أن ورثوا دولة ملطخة بأعظم الجرائم ضد الإنسانية، كان المنتمون إلى هذه الفئة العمرية بعد الحرب مستميتين في محاولة استعادة القيمة الأخلاقية لوطنهم.

كان هذا يعني التحول بمقدار 180 درجة بعيداً عن فِكر «الفوهرر». السلام، وليس الدبابات؛ المجتمع، وليس الغزو؛ الخير، وليس الجشع. وبهذا، قدمت ألمانيا ذاتها على أنها قوة أخلاقية عظمى، وكان لهذا مردود عملي.

وعندما أزعجهم إصرار الولايات المتحدة على مساهمتهم بقوات في مسارح عسكرية متعددة، ما كان من القادة الألمان إلا أن تذرعوا بماضي بلدهم الرديء: ليس نحن! في أحسن الأحوال، سيرسلون فرقاً رمزية بينما تتحمل الولايات المتحدة والمملكة لمتحدة العبء الأكبر.

لا يعاني الجيل الجديد من الخُضر وناخبوهم من الشباب تحت وطأة العبء الأخلاقي الذي تركه كبارهم، إنهم لا يحتاجون إلى الاحتماء خلف الماضي وإلقاء المواعظ حول التفوق الأخلاقي المستند إلى النزعة السلمية لإثبات تخليص وافتداء ألمانيا، وبحلول الوقت الذي شبوا فيه عن الطوق، كانت ألمانيا استعادت قبل فترة طويلة قيمتها الأخلاقية.

الواقع أن ألمانيا، الدولة الديموقراطية الليبرالية الراسخة، والمتأصلة بأمان في حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي، لم تعد في احتياج إلى الاستمرار على وضعها كخارج عن القانون خضع للإصلاح.

كان بوتين مفيداً في هذا الصدد بطبيعة الحال، والواقع أن أنتون هوفريتر، الرئيس السابق لحزب الخُضر، نَفَّثَ عن غضبه قائلاً إن بوتين يخوض «حرباً عدوانية إمبراطورية استعمارية».

يبلغ هوفريتر من العمر 52 عاماً، وقبل جيل، كان الخُضر والمنتمون إلى اليسار في عموم الأمر لينكمشوا مرتعدين خلف جرائم النازية: لقد تعلمنا درسنا! اليوم، لا يقف في صف بوتين غير اليمين المتطرف واليسار المتطرف. حققت الفئتان معاً 17 في المئة في أحدث استطلاع؛ في حين حصل الخُضر على نسبة صلبة بلغت 22 في المئة.

المسألة لا تتعلق بإمبريالية بوتين فحسب. لا يحتاج الخُضر الجدد إلى التبشير الأخلاقي المريح القائم على الماضي؛ إنهم المستفيدون من الافتداء الذي اكتسبه جيلان سابقان. مع نجاح هذه الزمرة في توطيد سلطتها، ربما تشب البلاد بالكامل عن الطوق. اليوم، يريد نحو 70 في المئة من الألمان الاستمرار في تشغيل محطات الطاقة النووية.

* جوزيف جوفي عضو مجلس تحرير صحيفة Die Zeit، وهو مدرس السياسة الدولية والفكر السياسي في كلية جونز هوبكنز للدراسات الدولية المتقدمة.

Project Syndicate