الخارجون عن القطيع
علق جورج طرابيشي في ندوة ثقافية بدمشق عام 71 عن حرية التعبير لدى الكتاب في مثل دولنا العربية والإسلامية، وقال: «... إن تقدم لغة الرمز لا يجد تفسيره إلا في أزمة الحرية السياسية تلك التي تتخذ من حين إلى حين، ومن هنا وهناك، شكل الإرهاب السافر تارة ومقنع طوراً، إن لغة الرمز هي لغة من لا يجرؤ أو من يعجز عن قول الحقيقة كاملة، وبديهي أنه ليس هناك من يطالب الأديب العربي بأن يكون شهيداً كما لا نريده أن يصمت، وإذا لم يكن هناك من خيار إلا بين الشهادة والصمت، فإننا نفهم أن يؤثر الكاتب لغة الرمز ليقول من الحقيقة نصفها أو حتى ربعها، إلا أن الرمز ضريبته باهظة وهي انكماش الجمهور الذي يتوجه إليه الكاتب، وتقلصه عددياً... والحال أن أدب النخبة قد ولى زمنه، وقد يحاول أديبنا أن يعزي نفسه بأن الأجيال القادمة هي التي ستفهم، ولكن مثل هذا العزاء ضرب من الرهان، وورقة يانصيب، ونحن نعلم قلة الأوراق الرابحة من اليانصيب..» (نقلاً من كتاب «ركعتان في العشق» دراسة في شعر البياتي لرؤوبين سنيير). مضى أكثر من نصف قرن من ملاحظة الطرابيشي، هل تغير أي أمر في مسألة حرية الفكر للكتاب والأدباء أو حتى عند عامة الناس في فضاء حرية التعبير بعالم القهر العربي - الإسلامي (مع استثناءات قليلة)؟ أبداً، الأمور سارت من سيئ إلى أسوأ، فيستحيل أن نجد اليوم جرأة طه حسين في «الأدب الجاهلي» أو علي عبدالرازق في «الإسلام وأصول الحكم»، وغيرهما وبعدهما مثل د. صادق العظم.
أمثلة القمع والإرهاب الفكريين كثيرة ولا يمكن حصرها، الجديد في العقود الأخيرة أن ذلك الإرهاب لم يعد قاصراً على الأنظمة القمعية التي تلاحق المعارضين لها حتى خارج حدودها الإقليمية، وإنما تمدد هذا الإرهاب لصدور جماهير عارمة تفرخ بشراً عمياً بفكرهم يعتقدون ويتحركون آلياً من غير وعي، تدفعهم فتاوى الدماء، ويتخيلون أن أبواب الجنة ستفتح لهم حين تسفك دماء أي إنسان خرج عن ثقافة القطيع. من هو الخارج عن القطيع؟ هو الفنان، هو الناقد والأديب والمعارض السياسي، هو الذي لا يسير كما تسير الأكثرية، ولا يفكر بنمطية مفروضة مثلهم، هو يبدع، يسلك درباً جديداً، يسلط بقعة الضوء على دروب مجهولة في متاهات مظلمة في العقول المتكلسة. هؤلاء المشاغبون من علماء وفلاسفة ومفكرين كانوا مصابيح التنوير في أوروبا بعهود الظلام، ومهدوا الطريق لثورات الحضارة والتصنيع فيما بعد، ماذا عنا اليوم؟ هل اقتربنا من عصر التنوير الذي تخطاه الغرب قبل قرون...؟ لم نصله بعد، مازلنا نردد باقتناع مطلق بأن «مع حمد قلم» ولا يعرف ماذا يكتب به.