دروس التاريخ من أجل الجغرافيا
تاريخ منطقتنا وتراثنا العربي والإسلامي مليء بالعبر وكم حريّ بنا - فعلاً لا تنظيراً -أن نستفيد من دروسها في ظل كل ما حيك وما يحاك لدولنا ومجتمعاتنا من مؤامرات تهديمية وخطط تقسيمية، وفي ظل ما نتخبط به من جهل وتخلف على هامش الحضارة الإنسانية.
في 24 أغسطس من عام 1991 استقلت أوكرانيا عن الاتحاد السوفياتي السابق، وفي نفس اليوم من عام 1949 تم تأسيس حلف شمال الأطلسي «الناتو»! وقد سبق أن شهد العالم في نفس اليوم عدة أحداث مهمة غيرت بعض مسارات التاريخ القديم والمعاصر، حيث في عام 1516 انتصر العثمانيون بقيادة سليم الأول على المماليك في معركة «مرج دابق» المفصلية التي أنهت فعلياً حكم المماليك وكرست سيطرة العثمانيين على بلاد الشام ومصر. وفي هذا التاريخ من عام 1814 وضمن أحداث الحرب الأميركية-البريطانية غزت قوات التاج البريطاني العاصمة واشنطن، وأضرمت النيران في مبانٍ عديدة من أبرزها البيت الأبيض! ومن ثم تمر السنون إلى أن يقدّم تيودور هرتزل أثناء انعقاد «المؤتمر الصهيوني» في مدينة «بازل» السويسرية في عام 1903 «مخطط أوغندا» الذي سبب انقساماً حاداً بين المؤتمرين حول مكان إقامة «الوطن اليهودي» بين «أوغندا» و»فلسطين»!التاريخ لا يعيد نفسه والأحداث لا تتكرر بل تتشابه مفاصلها؛ وفي السياق، ومن خلال فهم عميق لما يسمى «الجغرافيا التاريخية» التي تهتم بدراسة النشاط البشري والعمراني وتأثيراته المتبادلة مع الظروف والبيئة المحيطة، يؤكد وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر على فكرة الانسجام في الأحداث التاريخية دون تطابقها، لافتاً في مذكراته إلى «التشابه في المشاكل التي تمت مواجهتها عبر التاريخ، حيث تنشأ دول بينما تفشل دول أخرى، وتنهار ديموقراطيات وتهيمن دكتاتوريات».
فلنتعلم من دروس التاريخ كي نحصن مستقبل الجغرافيا؛ فهل كان يتصور الأوكرانيون أن حلف «الناتو» الذي ولد في نفس يوم استقلالهم عن الاتحاد السوفياتي سيفشل في إنقاذهم من الدب الروسي؟! وهل كان يجول في مخيلة المماليك أن حكمهم سينتهي على يد القبائل الزاحفة من شرق آسيا؟! وهل اعتقد ضحايا الحرب الإنكليزية-الأميركية أنهم سيصبحون ذكرى ماض أليم لدولتين حليفتين؟! وإني أتساءل عن شعور الأوغنديين كلما ازدادت معاناة الفلسطينيين الذي تحملوا عنهم وعن العالم عبء الاستيطان اليهودي!تاريخ منطقتنا وتراثنا العربي والإسلامي مليء بالعبر، وكم حريّ بنا -فعلاً لا تنظيراً- أن نستفيد من دروسها في ظل كل ما حيك وما يحاك لدولنا ومجتمعاتنا من مؤامرات تهديمية وخطط تقسيمية، وفي ظل ما نتخبط به من جهل وتخلف على هامش الحضارة الإنسانية المعاصرة وتراجعنا الشديد الانحدار بفعل أيدينا وجنى طبائعنا ومطامعنا. ألم تحن اللحظة لأن نستذكر أن بناء الحضارة الأندلسية لم يكن إلا نتاج التمسك بالقيم الدينية والأخلاقية وحصيلة طبيعية للانفتاح الحضاري على الثقافات الأخرى في حين أن اندحارها كان بفعل استقلال أمراء الأندلس -الأشقاء والأقارب- بدويلات متناحرة عاشت وانتهت سريعاً في فترة أسماها التاريخ العربي بعصر «ملوك الطوائف»؟!أليس داهماً وضرورياً أن تلتفت أجيالنا المترفة والمنعّمة إلى أن «النعمة زائلة» وأن «الدنيا دوائر»، كما أن تاريخ أجدادنا الذين أنهكهم تفتيت الصخر وأعيتهم شموس الصحاري وأفقدتهم أعماق البحار راحتهم وحياتهم ليس ببعيد! ألا يحق لنا ولأجيالنا أن نستغرب كيف قسّمت المعاهدات الدولية شعوب منطقتنا ووزعتهم بين دول وأحياز جغرافية رسم المنتصرون والمستعمرون حدودها السياسية بالقلم والمسطرة على خرائط ورقية؟!ألن نتعلّم أن الطبيعة تكره الفراغ، وأن الحضارة تتجاهل الخاملين، وأن أي سبات فردي وخنوع جماعي يلقينا سريعاً في الثقب الحضاري الأسود؟! فماضينا المشرق لا -ولم ولن- يشفع لنا في السباق بين الأمم، كما لم يشفع مجد الحضارة الإغريقية لدولة اليونان عند انهيارها الاقتصادي! فكما يقترن الزمان بالمكان يحدد التاريخ معالم الجغرافيا، فالعلاقة المتبادلة بينهما قوية ومؤثرة، كما أن أي بناء للتاريخ والمستقبل من غير فهم للجغرافيا هو -كما التعامل مع الجغرافيا من غير فهم للتاريخ- تحليق في الفضاء على غير هدى ومن غير مصدر للطاقة.فلنتمعّن بوعي وهدوء في واقع جغرافيتنا، ولنستذكر بعمق ورويّة تاريخنا، ذلك لأن حاضرنا لا يسرّ، ومستقبل أجيالنا غامض كي لا نقول مقلق. * كاتب ومستشار قانوني
د. بلال عقل الصنديد
ألم تحن اللحظة لأن نستذكر أن بناء الحضارة الأندلسية لم يكن إلا نتاج التمسك بالقيم الدينية والأخلاقية وحصيلة طبيعية للانفتاح الحضاري على الثقافات الأخرى