مع صدور مرسوم الدعوة الخاص بانتخابات مجلس الأمة 2022، تبرز على الساحة المحلية ظاهرة سياسية - اعلامية ذات أبعاد تجارية تتمثل في انفلات عميق لما يعرف بالتحليل الانتخابي واستطلاعات الرأي عموماً، بشكل تتنامى فيه شبهات استخدام المالي السياسي والانكشاف على تعارض المصالح، فضلاً عن محدودية أو عدم استخدام أدوات القياس العلمي في تحديد توجهات الناخبين بما يترتب عليه من تحليل مضلل؛ قد يؤثر على قرارات الناخبين خصوصاً في ظل نظام انتخابي معزز للفردية وقابل للاستجابة للأموال غير المشروعة. استفتاءات عالميةولعله من المفيد القول، إن أي عملية انتخابية أو استفتاء شعبي خصوصاً في دول العالم المتقدم كالولايات المتحدة وأوروبا واليابان باتا مرتبطين بعمليات قياس الرأي العام وفقاً لمعايير علمية تعلن فيها منهجيات البحث والاستقصاء من حيث الشريحة المستهدفة من النواحي الجغرافية والعمرية والمستوى التعليمي والمالي إلى جانب وضوح الأسئلة ومباشرتها والتمييز بين التوقع والتمني، ناهيك عن تحديد نسبة الخطأ أو عدم الجدية المتوقعة في أي استطلاع للرأي، مع بيان نسب حتى الوسائل التي استندت لها المؤسسة في قياس الاستطلاع إن كانت مباشرة أو إلكترونية أو من خلال الاتصال الهاتفي، وغير ذلك الكثير من المعايير والأدوات التي تضمن حيادية ومهنية أي استطلاع للرأي خلال فترة الانتخابات أو غيرها.
مثالب التحليل
ولسنا في معرض بحث الأدوات العلمية في استطلاعات الرأي العام بقدر ما نحن أمام حالة محلية متنامية خلال السنوات العشر الأخيرة تتعلق بمثالب التحليل الانتخابي، الذي يقدم للرأي العام نتائج وقراءات مجهولة القواعد المهنية والعلمية بشكل يعوق تطور نشاط استطلاعات الرأي العام، بما يمكن أن يجعله لاحقاً «بيزنس» مهنياً ومتطوراً كالذي تقوم به مؤسسات عالمية كمؤسسات الاستطلاع مثل غالوب ومعهد افوب ومورنينغ كونسلت واو ضمن إعداد مادة خبرية كالتي تقوم بها المؤسسات الإعلامية من الصحف والقنوات العالمية مثل «نيويورك تايمز» أو «سي إن إن» أو «سي بي سي»، فضلاً عن كونها مادة بحثية من خلال استطلاعات الجامعات كجامعة هارفارد أو «جورج واشنطن»، فهذا التنوع يعطي الاستطلاعات مصداقية أكبر نظراً إلى تنوع مرجعية هذه المؤسسات ما بين شركات خاصة ووسائل إعلام وجهات أكاديمية مما يخلق بينها التنافس حول جودة أدوات القياس العلمي، إلى جانب السعي للتوصل إلى أدق النتائج أو التوقعات الممكنة.ولعل العديد من استطلاعات الرأي في دول العالم ليس مرتبطاً بالضرورة برصد الاتجاهات السياسية أو القضايا العامة إنما أيضاً بقياس مستوى تقبّل العملاء لمنتجات الشركات وخططها التسويقية، حيث تكون مصداقية الاستطلاع مرتبطة بمدى حياديته وعدم تأثره بأي عوامل تعرضه لتعارض المصالح.إعادة التصويب
وربما يتساءل البعض: ما قيمة الاستطلاعات اذا كانت توقعاتها في المحطات المهمة تخالف النتائج؟صحيح أن العديد من الاستطلاعات لم تكن على مستوى الحدث أو على مستوى القراءة السليمة لاتجاهات الرأي العام، لا سيما في توقعات فوز هيلاري كلينتون في الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2016 وأيضاً توقعات رفض البريطانيين التصويت على الخروج من الاتحاد الأوروبي عام 2019، لكنها أيضاً أعطت صورة دقيقة مثلاً في رصد اتجاهات الاسكتلنديين تجاه الانفصال عن بريطانيا عام 2014 والانتخابات الفرنسية العام الحالي، وبعيداً عن السياسة كان للاستطلاعات دور لافت في قياس الرأي العام خلال جائحة «كوفيد 19» بشأن مدى تفهم الإجراءات الصحية وصولاً إلى قياس مدى تقبل الناس لتلقي اللقاحات وهل هناك تخوف من فاعليتها أو أضرارها الجانبية أم لا.لذلك فإن إخفاق أو نجاح استطلاعات الرأي في قراءة توجه معين أمر متوقع، والرهان هنا على معالجة الثغرات أو إعادة وزن العوامل والمتغيرات التي أدت إلى تقديم قراءة خاطئة - رغم استخدام الأدوات العلمية السليمة - وهو ما حدث بالفعل عند معالجة الثغرات التي توقعت فوز كلينتون في 2016 إلى توقع جو بايدن في 2020، كما أن استطلاعات الرأي العالمية اليوم أمام محك قياس الرأي العام في أيرلندا الشمالية بشأن الانفصال عن المملكة المتحدة والانضمام إلى أيرلندا موحدة.حوكمة الإنفاق الانتخابي
وكي لا نبتعد عن واقع الكويت، فإن ما يحدث في مجال التحليل الانتخابي وقياس الرأي العام خلال فترة الانتخابات البرلمانية لا علاقة له بأي من أدوات الاستطلاع العلمية بل أقرب إلى «حراج» انتخابي تتداخل فيه الأهواء والمصالح وهو أقرب إلى التدليس على الرأي العام بشكل يستوجب على الدولة التدخل - ربما مع إقرار مفوضية عامة للانتخابات – كي تحظر التحليل الانتخابي إلا لجهات مرخصة تتوخى الحياد واستخدام الأدوات العلمية في القياس والاستطلاع والتحليل مع ضرورة الإفصاح عن اموال تدفع على شكل «إعلانات أو رعايات» من «عملاء»، سواء كانت هذه الأموال أثرت أو لم تؤثر على نتيجة أي استطلاع كي يكون الرأي العام على بينة تجاه أي حالة تعارض مصالح محتملة… وهذا كله يجب أن يكون ضمن مشروع أكبر لحوكمة الإنفاق المالي الانتخابي بالكشف عن قيمة ومصادر الإنفاق بما يمنع التدليس على الرأي العام أو التأثير على مخرجاته وقراراته. نشاط تجاريلا ضير في أن تكون التحليلات الانتخابية واستطلاعات الرأي العام على صورة نشاط تجاري لفرد أو جماعة أو تحت رعاية مالية لتمويل المؤسسات الأكاديمية أو البحثية لكن الضرر في ألا تكون هذه الأموال معلنة ومفصحاً عنها لجهة تنظيمية تراقب الانتخابات وبشكل يحوكم حيادية الاستطلاع، ويشدد على استخدام المعايير الفنية كالشرائح العمرية ومستوى التعليم والدخل وغيرها لتقديم توقع للرأي العام، بحيث تنشر المنهجية التي قام عليها الاستطلاع كي يكون أمام الجهات المختصة والمستقلة فرصة لتقييم هذه الاستبيانات أو الاستطلاعات تمهيداً لتصنيفها لاحقاً حسب درجة موثوقيتها وحياديتها ومهنيتها.شبهات المال السياسي
ولعل هذه الفوضى في جانب التحليل الانتخابي تتيح مجالاً أوسع أمام المال السياسي لدخول المشهد، لا سيما عند بث الشائعات عن أوضاع المرشحين المنافسين أو حظوظهم بالنجاح، فضلاً عن تسويق مرشحين لا يملكون فرص الفوز باعتبار أن نجاحهم مؤكد… ولعل مراجعة توقعات المحللين للسنوات الماضية تكشف تسويقهم لبعض المرشحين بوضعهم ضمن دائرة النجاح والمنافسة الشديدة فتأتي نتائج الانتخابات لتكشف حجم الزيف والتضليل في التحليلات الانتخابية على الرأي العام… ربما يكون بعضها نتيجة أموال سياسية استهدفت التدخل في الانتخابات.لا تحليل إلا بترخيص
في الحقيقة، يمكن أن يدفع الرأي العام ثمن التحليلات غير العلمية والضعيفة المهنية، ليس على صعيد التحليل الانتخابي، إنما أيضاً في مجتمع الأعمال كتحليل الأسهم أو التقييم العقاري وغيرها من الأنشطة كتقديم التوصيات في العملات والذهب ومختلف أدوات الاستثمار، لذلك يجب أن تتشدد الجهات النظامية في مكافحة التحليل غير العلمي بمختلف صوره عبر قاعدة «لا تحليل إلا بترخيص» كما فعلت هيئة أسواق المال مع المحللين غير المرخصين، لذلك يجب أن يخضع الترخيص في هذه الحالة لأشخاص أو جهات يستوفون معايير معينة «أاديمية - مهنية - قانونية» حتى وإن كانت ضمن نشاط تجاري، فدور الجهة الرقابية ضمان عدم تعارض مصالح «العملاء» مع النتائج المنشورة للرأي العام.