الأتراك مرُّوا من هنا
التقارب بين العرب والأتراك يأخذ حيزاً لا بأس به من اهتمام المفكرين والمثقفين، على رأسهم مبادرة «منتدى التكامل» التي ظهرت منذ سنوات في بيروت، وكان من بين القائمين عليها الزميل سعد محيو صاحب «الأفكار الخلاقة» وتدعو إلى تكامل الحضارات في الشرق بدلاً من التطاحن والتقاتل والحروب وخصوصاً بين العرب والأكراد والفرس والأتراك، وفي هذا المحور وجدت كتابا يصب في مجرى التكامل العربي– التركي، لمؤلفه «إبراهيم عباس نتُّو» صادراً عن «دار جداول للنشر» في بيروت أثناء زيارة قمت بها لنقيب أصحاب المطابع الأسبق الزميل نزيه كركي. أنقل عن مقدمة المؤلف، «بيننا وبين الأتراك تاريخ يفوق الألف عام، تماوجت علاقتنا في المجالات العمرانية والسياسية والتجارية وتلاحمت في مجال الفكر والإعلام»، وكان من أوضح التفاعلات تأثر الأتراك باللغة العربية التي دخلت مفرداتها فيما مضى إلى اللغة التركية بالمئات، لكن احتفظ الأتراك بمفردات من منطلق «الهوية التركية» على أنها كلمات عثمانية! هذا الكتاب أعادني نحو خمس سنوات إلى الوراء عندما شرعت في عمل استطلاع نشرته مجلة «العربي» حول الأثر العثماني في لبنان، وكان من ضمن الأسئلة، ما أثر الاحتلال العثماني لمنطقتنا على الثقافة واللغة، بخلاف المباني المعمارية والسرايا والتكايا و»الطابو» وسجلات وقوانين الأوقاف وغيرها؟
نتحدث اليوم عن التقارب بين النظام التركي والمحيط العربي بعدما بات من الأرقام الصعبة، فهو خرج على يد رجب طيب إردوغان إلى الفضاء العربي، واتخذ أشكالاً من الاحتلالات العسكرية والسياسية إضافة إلى العلاقات التجارية والثقافية والدبلوماسية، تركيا في سبيلها إلى إغلاق ملفات مأزمة ومعقدة، مثل الملف السوري بعدما أغلقت ملفات العلاقات الصعبة مع السعودية ومصر، وأيا كانت الوجهة السياسية يبقى الأثر العثماني والتركي الحديث قائماً، فهذا اللاعب تغريه العودة إلى «تاريخه الواسع والممتد» وبما له من تداعيات على المستوى الجغرافي والوجود العسكري.صورة السياحة في تركيا باتت حاضرة وبقوة على الساحة العربية والخليجية والدولية، ومقصد الملايين من الناس، وفي مخيلة هؤلاء أسئلة عن الكلمات العربية في اللغة التركية الحالية، وكيفية النطق بها، وتبديل بعض الحروف مثل كتاب «Kitap» على شاكلة كباب «Kebap»، كما أن هناك كلمات تركية وصلت إلى الديار العربية وأصلها تركي خالص مثل تتن (Tutun) وشاورما (shawarma) وطابة من طوب (Top)، بمعنى كرة وكلمة (طوز) أي الرمال الحارة والغبار الكثيف، وهي تركية (Tuz) خشن وهذه غير كلمة (طز) ومعناها. اللغات الحية لها صلة بالدول المصدرة لها، هي تعكس المستوى العلمي والاقتصادي وترتبط بمصالحها، وغالباً ما يكون هناك طرفان، أحدهما متلقى والآخر مصدر، وإن ارتبط انتشار اللغات بالاستعمار واستمر إلى مرحلة الاستقلال سواء في المحيط العربي أو في قارات العالم، فعندما تغزو الدول الكبرى مناطق خارجية تحمل معها لغتها وهذه حال العرب مع القوى الغازية من أيام الاحتلال العثماني إلى الإنكليزي ثم الفرنسي. قدم العميد السابق في جامعة البترول السعودية الدكتور إبراهيم نتُّو قائمة بمفردات عربية في اللغة التركية، تعد بالمئات ووضعها في جداول مرتبة حسب الحروف الهجائية الإفرنجية واتبع معناها بالإنكليزية ثم بالعربية ونطقها بالتركية والإنكليزية . لقد بذل المؤلف جهداً واضحاً في جمع واستقصاء وتدوين المفردات والتي وصلت وعلى مدى عشر سنوات إلى الألف أثناء زياراته المتواصلة إلى مدينة إسطنبول هدفه خدمة «تنشيط السياحة المشتركة» والثاني تنمية العلاقات بين العرب والأتراك، عسى أن يكون حقق الهدف. يبدو أن التقارب الحالي بين تركيا وجيرانها منقطع عن اللغة والثقافة، فهو قائم على النفوذ والتوسع التركي مصحوباً بالمصالح والعلاقات الدبلوماسية، فالرئيس إردوغان أجاب عن السؤال بطريقته عند عودته من أوكرانيا «لماذا نستضيف 4 ملايين لاجئ سوري، هل لكي نظل في حالة حرب مع النظام؟ بل بسبب روابطنا مع الشعب السوري»؟.