حين أقدمت روسيا على غزو أوكرانيا في فبراير الماضي، وضع الكرملين قواته العسكرية عن غير قصد في موقفٍ غير قابل للاستمرار، فأمرها بتنفيذ عمليات تفوق قدراتها، وطلب أن يتوجّه جميع الجنود تقريباً إلى أوكرانيا بوتيرة متزامنة وسريعة للقتال على جبهات متعددة، لكنه لم يأخذ بالاعتبار التدابير الوقائية اللازمة في هذا النوع من العمليات، منها تنظيف الطرقات من المتفجرات، بل تقدمت القوات الروسية بوتيرة غير مستدامة، ثم أصبحت معرّضة للكمائن والاعتداءات المضادة، وواجهت مشاكل لوجستية كثيرة كلّفت الجيش خسائر كبرى على مستوى الجنود والمعدات.كان الخطأ الأول ينجم عن الأوهام التي حملها الكرملين قبل الحرب، إذ شعرت موسكو بثقة مفرطة بأجهزتها الاستخبارية، وقدرة عملائها على رسم الأحداث والسياسات داخل أوكرانيا، وبأداء قواتها المسلحة. لكنها استخفت في المقابل بقدرات أوكرانيا واستعدادها للقتال، ولم تتوقع حجم الدعم الغربي لكييف.
وتسنّى لروسيا أن تتعلم من هذه الأخطاء على مر ستة أشهر، لكن يبدو أنها تُصِرّ على تكليف قواتها المُنهَكة بمهمة شائكة أخرى: ضمّ أقاليم «دونيتسك»، و«خيرسون»، و«لوهانسك»، و«زابوريزهزهيا» والحفاظ عليها. لكن يتطلب الاستيلاء على هذه الأراضي مستوىً عالياً من القوات المسلحة والمعدات المدرّعة، إذ تشمل تلك الأقاليم جبهات متنازعاً عليها وتواجه القوات الروسية فيها اعتداءات منظّمة. كذلك، خسرت موسكو أكثر معداتها تقدّماً ولا تملك بديلاً عنها حتى الآن. وفي الوقت نفسه، خسرت القوات الروسية المسلحة عشرات آلاف الجنود، منهم عناصر مدرّبون، واستراتيجيتها الراهنة تعجز عن إنشاء قوة قتالية فاعلة كونها ترتكز على تجنيد عناصر جدد بناءً على خليط متنوع من الفئات والجماعات المسلحة. وباختصار، ثمة تفاوت واضح بين أهداف الكرملين في أوكرانيا والقوات التي يتكل عليها لتحقيق تلك الأهداف.قد يتابع الكرملين تنفيذ خططه في مطلق الأحوال، فيستنتج أنه يستطيع أن ينهي هذه المرحلة من الحرب سريعاً، ويكبح الدعم الغربي في أوكرانيا، ويكسب الوقت لإصلاح جيشه وتجديده من خلال ضم تلك الأقاليم الأربعة. لكن إذا عجزت موسكو عن جمع الموارد الكافية لتحقيق هذا الهدف، فسيجد الجيش الروسي المُنهَك صعوبة في الحفاظ على أي جبهة متنازع عليها، وحتى لو تحكّم الكرملين بجميع المبادرات المرتقبة وأعلن التعبئة العامة لتأمين ما يكفي من المعدات المدرّعة والعناصر المدرّبة، فإن هذه العملية تحتاج إلى الوقت، وقد تواجه القوات الروسية إذاً شحّاً في الموارد على مر سنة أو سنتين، مما يمنح القوات الأوكرانية فرصة التصدي للجهود الروسية الرامية إلى السيطرة على الأقاليم الأربعة.سيبدأ الجيشان الأوكراني والروسي مرحلة حرجة في الأسابيع والأشهر المقبلة، ولو لأسباب مختلفة. في بعض المناطق، أصبحت القوات الأوكرانية أكثر ضعفاً على مستوى المعدات ونطاق التحرك، وباتت بأمسّ الحاجة إلى الذخائر وأنواع محددة من الأسلحة، بسبب إصرار روسيا على تعطيل الدفاعات الأوكرانية. لكن قد تكسب أوكرانيا على المدى القريب مكانة أكثر استدامة، إذ يملك البلد ما يكفي من العناصر والدعم الغربي ويتمتع بإرادة قوية للقتال، في المقابل، تكبدت روسيا خسائر يصعب التعويض عنها على مستوى الجنود والمعدات. وتشير التقديرات الغربية إلى إصابة أو مقتل بين 45 و75 ألف عنصر، من صغار المجندين إلى الجنرالات، كما أنها خسرت أكثر من 5 آلاف قطعة من المعدات العسكرية. والجيش الروسي تعلم الدروس من هزائمه الأولى على مستوى العمليات والتكتيكات وتكيّف مع المستجدات، فانتقل إلى تكتيكات جديدة تفضّل استعمال قوته العسكرية الفائقة، لكن لن تكون هذه التعديلات في ساحة المعركة كافية لتجاوز الخسائر الأولية الفادحة.هذه الشوائب تُصعّب على روسيا الاحتفاظ بالمناطق التي تحاول ضمّها إليها، فإذا نجح الكرملين في ضمّ الأقاليم خلال الخريف المقبل، سيكون حينها في أعلى درجات الضعف، ولتحقيق النجاح، يجب أن تعيد موسكو التزود بكميات كبيرة من المعدات والعناصر، لكن ستكون هذه المهام بالغة الصعوبة.تستطيع روسيا أن تحشد عدداً إضافياً من الجنود عبر الاستعانة بالقوات الحدودية أو الحرس الوطني. لكن من المتوقع أن تبلغ قدرة البلد على تأمين العناصر ذروتها خلال الأشهر المقبلة، إلا إذا أعلنت روسيا التعبئة العامة وجنّدت الرجال من جميع أنحاء البلد. لكن لا يمكن أن تنعكس هذه التعبئة على العمليات إيجاباً قبل مرور أشهر عدة أو حتى سنة في أفضل الأحوال، إذ بقيت قاعدة التعبئة الروسية المؤلفة من معدات مخزّنة منذ وقت طويل وعناصر احتياطيين خامدة لأكثر من عشر سنوات. ونتيجةً لذلك، لا مفر من زيادة الأعباء على هذا النظام عند توسيعه على المستوى الوطني، بما في ذلك استدعاء رجال في سن التجنيد رغم افتقارهم إلى الخبرة، كذلك، يقاتل آلاف الضباط راهناً في أوكرانيا أو سبق وقُتِلوا هناك، علماً أنهم الأشخاص الذين تُكلّفهم روسيا بقيادة الوحدات الناشطة.وبالقدر نفسه، تطرح المعدات الروسية مشكلة شائكة، فوفق معطيات المسؤولين الأميركيين، استعمل الجيش الروسي 80% من قواته الناشطة ووحداته الجوية والبحرية ومعداته في أوكرانيا، وسبق وسحب معدات إضافية من مستودعات قديمة. وتملك روسيا آلاف المركبات المدرّعة والصواريخ المخزّنة، لكنها أقل فاعلية من غيرها: تبقى المعدات المخزّنة منذ وقت طويل قديمة في معظمها وتتفاوت درجات استعمالها، فقد حُفِظت في مساحات مفتوحة طوال سنوات. في موازاة ذلك، يتابع قطاع الدفاع الروسي تصنيع القدرات العسكرية، لكن ستجد روسيا صعوبة في إنتاج كميات كبيرة من المعدات الجديدة خلال وقتٍ قصير بسبب الأعباء المتزايدة على خطوط الإنتاج نتيجة العقوبات الغربية الفائقة، في حين اتخذ الكرملين خطوات أولية لدعم هذا القطاع والتعويض عن المعدات المفقودة وزيادة كميات الصواريخ، لكن لن تعطي هذه التدابير أي نتائج واضحة قبل مرور سنوات عدة.على صعيد آخر، لن تضمن مشاكل موسكو نجاح أوكرانيا، إذ خسرت كييف عدداً كبيراً من الجنود والأسلحة، وقد تجد قريباً صعوبة في تنفيذ عمليات هجومية أو اعتداءات مضادة جديدة وواسعة النطاق، على غرار روسيا. وقد يُركّز البلدان على بذل جهود خاصة لتجنب استنزاف قدراتهما، لكن ستضطر أوكرانيا لتكثيف القتال لمنع روسيا من ترسيخ سيطرتها في المناطق التي تُخطط لضمّها أو للتصدي لهذه العملية في حال حصولها. كذلك، تحتاج كييف إلى دعم غربي متواصل للاستفادة من تفوقها النوعي في ساحة المعركة، وقد تضطر لاستعمال زخم اعتداءاتها المضادة لمنع موسكو من دمج الأقاليم المحتلة مع روسيا.وضعت كييف هجومها المضاد في «خيرسون» على رأس أولوياتها، وهي تستهدف القواعد الروسية على مسافات أبعد، وقد تشمل المواقع المستهدفة قاعدة طيران بحرية في شبه جزيرة القرم. كانت القوات الروسية في «خيرسون» الأكثر ضعفاً في بداية الصيف، لكن أعادت روسيا نشر مواردها هناك في الأسابيع الأخيرة، انطلاقاً من إقليم «دونباس». وتستطيع أوكرانيا أن تمنع روسيا من تحصين هذه المساحة المحورية وضمّها عبر استعمال تقنية أثبتت نجاحها في مراحل الحرب الأولى: افتعال خسائر فادحة في ساحة المعركة لدرجة أن تقتنع قيادة الجيش الروسي بعجز قواتها عن السيطرة على الإقليم واستحالة الحفاظ على مواقعها راهناً أو مستقبلاً. ولتحقيق هذا الهدف، يجب أن يتمسك الجيش الأوكراني بجبهة متنازع عليها، ويهاجم أنظمة التحكم والقيادة الروسية، ويُضعِف القوات الروسية بوتيرة ثابتة لدرجة أن تعجز عن القتال في منطقة معيّنة.يُحلل المخططون العسكريون الروس مدى فاعلية قواتهم العسكرية، فيراجعون مستوى استنزافها، وفيما يخص القوات الروسية البرية، افترض هؤلاء المخططون قبل الحرب أن تخسر الوحدات فاعليتها حين تفقد بين 50 و60% من قوتها الأصلية. واستناداً إلى تقديراتهم، تصبح شبكة التحكم والقيادة في المناطق معطلة بشكلٍ دائم حين يتدمّر 40% من معداتها، هم يظنون أن القوات الجوية تعجز عن تنفيذ العمليات حين تخسر 70% من طائراتها. وإذا كانت أوكرانيا تستطيع إنشاء جبهة متنازع عليها (كما فعلت خارج كييف وخاركيف) عبر استهداف نقاط القيادة والتحكم، وإحداث خسائر كبرى في المعدات، وزيادة الخسائر البشرية في صفوف القوات الروسية، قد تقتنع موسكو مجدداً بالانسحاب.لكن لتحسين فرص نجاح هذه الاستراتيجية الأوكرانية، يجب أن تتطور قبل أن تحاول روسيا ضم الأرض التي تسيطر عليها. تستطيع الاعتداءات الأوكرانية حينها أن تمنع روسيا من ترسيخ مكانتها في مناطق مثل «خيرسون». وحتى لو أقدمت روسيا على ضم أي أرض أوكرانية وحاولت وقف العمليات لفترة، لن يكون الأوكرانيون وداعموهم الغربيون مضطرين للالتزام بذلك. في النهاية، لا تزال الطموحات الروسية الإجمالية على حالها. تريد موسكو أن تضمّ أجزاءً واسعة من أوكرانيا، وترغب في نزع سلاح البلد كي تعجز الحكومة عن مقاومة تحركاتها، وتسعى إلى إيصال زعيم موالي لروسيا إلى كييف. لكن لن يكون ضم أربعة أقاليم كافياً لإنهاء المهمة الروسية في أوكرانيا للأسف، بل إنه مجرّد جزء بسيط من مشروع بوتين العام. يجب أن يستعد الأوكرانيون وداعموهم إذاً لخوض حرب مطوّلة.* دارا ماسيكوت
دوليات
إخفاقات روسيا المتكررة
26-08-2022