في العاشر من يوليو الماضي، التقى أصلان بهادير ونهاد بلعلي قرب محطة حافلات في حي «مولنبيك»، ببروكسل، على بُعد خطوات قليلة من شارع «كاتر فان» رقم (79)، الذي شهد قبل أكثر من ست سنوات عملية كبرى من تنفيذ الشرطة، إذ سيق صلاح عبدالسلام عضو تنظيم «داعش» والناجي الوحيد من بين منفذي الهجوم الإرهابي في العاصمة الفرنسية باريس عام 2015، إلى خارج المبنى بعد مطاردته أشهراً طويلة.

في 29 يونيو، حكمت محكمة في باريس على عبدالسلام «32 عاماً» بالسجن المؤبد لتورطه في تلك الاعتداءات، إذ تعاون فريق من عشرين رجلاً سبعة منهم على الأقل من حي «مولنبيك» لتنسيق التفجيرات وحوادث إطلاق النار التي أسفرت عن مقتل 130 شخصاً وإصابة أكثر من 400 آخرين في العاصمة الفرنسية ومحيطها حينها.

Ad

وقال عبدالسلام، وهو مواطن فرنسي من أصل مغربي نشأ في حي «مولنبيك»، إن دوره اقتصر على إيصال القتلة، بما في ذلك شقيقه، وأكد أنه «رفض» مهمة تفجير سترة ناسفة «لأسباب إنسانية».

ورغم أنه اعتذر من الضحايا خلال محاكمته وطلب منهم أن يكرهوه «باعتدال»، فإن المحاكم الفرنسية لم تكن رحيمة مع الرجل الذي ساعد الإرهابيين ثم قصد مطعم «ماكدونالدز» بعد إيصال الانتحاريين إلى مسرح «باتاكلان».

تقول بلعلي إن هذا الحُكم منصف، وهذه البلجيكية المغربية تعمل في قسم خدمة العملاء في أحد البنوك، وتقيم مع عائلتها على بُعد بضعة منازل من مخبأ عبدالسلام السابق، وهي تؤكد عدم معرفتها باختباء عبدالسلام على مسافة قريبة من منزلها.

يقول بهادير وبلعلي، إن الحي كله تأثّر بنشاطات عبدالسلام والمعتدين الآخرين من «مولنبيك».

ومنذ عام 2015، تعتبر التقارير الإعلامية هذا الحي معقلاً للجهاد الأوروبي، ولم تنجح المنطقة في التخلص من هذه السمعة السيئة بعد، يشعر سكان الحي بالعار وينتابهم الخوف لأنهم أصبحوا جميعاً إرهابيين مُشتبها فيهم بنظر الشرطة والبلجيكيين الآخرين منذ اعتداءات باريس.

ووسط توسّع الجرائم المرتبطة بالمخدرات في «مولنبيك»، يخشى بعض الخبراء أن تستمر الأسباب الأصلية الكامنة وراء التطرف الإسلامي، أي التهميش الاجتماعي الذي دفع بعض الشبان في «مولنبيك» إلى التطرف في الماضي، مع أن الظروف العالمية التي تبرر هذا التطرف تلاشت في معظمها اليوم.

ويُعتبر حي «مولنبيك» خاصاً بالمهاجرين، إذ تعجّ أسواقه بالمتاجر التي تبيع الأوشحة والأثواب الطويلة والحجاب، وتقدّم مطاعم كثيرة أطباقاً معروفة في الشرق الأوسط، يتألف معظم سكان الحي من مسلمين من أصل مغربي، مع أن عدد المهاجرين القادمين من إفريقيا وشرق أوروبا بدأ يتصاعد أيضاً. يعترف كل من يشعر بالعار في أماكن أخرى من البلد، لسبب بسيط مثل أسلوب الملابس في بعض الحالات، بأنه يصبح أكثر حرية في التعبير عن هويته الحقيقية في هذا الحي.

في مقهى «برانشي» في شارع «ديلانوي»، راحت الشابة ساميا بيلي «20 عاماً» تسحق الثلج والمانغا في الخلاط. كان جميع العملاء في ذلك المقهى الشهير من أصحاب البشرة الملونة، وقد طلب معظمهم وجبات فطور متوسطية مثل اللبنة المعروفة في الشرق الأوسط، أو طبق الشكشوكة «بيض مسلوق في صلصة البندورة».

في 10 يوليو، قالت بيلي، التي كانت ترتدي الحجاب وتضع مكياجاً خفيفاً على وجهها، إن المدينة أصبحت أكثر عدائية معها منذ اعتداءات باريس واعتقال عبد السلام: «أنا أواجه تلك النظرة في معظم الأوقات الآن. إنها النظرة التي يستعملها الناس حين يشاهدونني وأنا أرتدي الحجاب. إنه وضع مخيف».

يتعامل السكان مع مظاهر العدائية المتزايدة منذ عام 2015، ويشهد هذا الحي مداهمات متقطعة من جانب الشرطة بسبب ارتباطه بالاعتداءات المتطرفة منذ أن شكّل ملجأً آمناً للإرهابيين الذين اغتالوا أحمد شاه مسعود، قائد المجاهدين الأفغان الذي كان يعارض حركة «طالبان»، في عام 2001.

نفّذت الحكومة أيضاً عدداً من عمليات مكافحة الإرهاب في «مولنبيك»، بما في ذلك البحث عن مشتبه فيه بعد الاعتداء على المتحف اليهودي في بروكسل، في عام 2014، وبعد الاعتداءات التي استهدفت صحيفة «شارلي إبدو» في عام 2015.

يصعب تحديد الأسباب التي تدفع الأفراد إلى التطرف، لكن يظن عالِم الأنثروبولوجيا يوهان ليمان، رئيس المركز الاجتماعي «فواييه» في «مولنبيك»، أن خليطاً من العوامل المحلية والعالمية هي التي حوّلت هذا الحي إلى أرض خصبة للجماعات الإرهابية، بما في ذلك تنظيم «داعش».

على المستوى المحلي، لطالما سجّل هذا الحي نسبة مرتفعة من البطالة والفقر مقابل تراجع فرص التعليم. في غضون ذلك، أدى الغزو الأميركي لأفغانستان والعراق على الأرجح إلى زيادة جاذبية هذه الجماعة، ولا ننسى تأثير النجاحات الأولية التي حققها «داعش» في ساحة المعركة.

لكن بعد ابتعاد الولايات المتحدة عن شؤون الشرق الأوسط، وانسحابها من أفغانستان، وتخفيض وجودها العسكري في العراق، وتلاشي شعبية تنظيم «داعش» غداة هزائمه الميدانية، تثبت العوامل المحلية في «مولنبيك» أن الجماعات المتطرفة قد تستغل هذه الظروف لمصلحتها. يبلغ مستوى البطالة في هذا الحي 21%، أي ما يفوق المعدل الوطني بثلاثة أضعاف. في الوقت نفسه، يتزامن اليأس الاقتصادي مع زيادة الجرائم في الحي، لا سيما تهريب المخدرات في آخر سنتين.

يقول ليمان: «طوال أكثر من أربعين سنة، كان حي «مولنبيك» صلة وصل لتهريب المخدرات من المغرب إلى هولندا، لكن بلغت هذه العمليات ذروتها في الفترة الأخيرة لأن أزمة كورونا خفّضت مداخيل الناس. أصبحت هذه التجارة نموذج عمل لعدد كبير من العائلات».

في فترة بعد الظهر من يوم 20 يونيو، اندلعت حرب عصابات على تقاطع شارع «كاتر فان»، على بُعد مئات الأمتار من مخبأ عبد السلام السابق. شهد حي «مولنبيك» حينها حادث إطلاق نار للمرة الثالثة عشرة منذ شهر سبتمبر الماضي، سجّلت بروكسل 22 حادثة إطلاق نار هذه السنة، ووفق التقارير الإعلامية البلجيكية، كان جزء كبير من تلك الحوادث يرتبط بالعصابات والمخدرات.

وصرّحت عمدة «مولنبيك»، كاثرين مورو، أمام الصحافة المحلية: «لقد أصبحنا أمام مرحلة ما قبل كورونا وما بعدها. منذ ذلك الحين، أصبحت الصراعات أكثر احتداماً. زادت كمية الأسلحة والأموال المتداولة بين الناس، ونحن نتعامل مع المزيد من العصابات المنظّمة».

لم يُسجَّل أي نشاط جهادي جديد في هذه الفترة، ومع ذلك يشعر بعض المراقبين بالقلق من احتمال أن تستغل الخلايا الإسلامية النائمة خليطاً من التمييز العنصري وزيادة تهريب المخدرات لتجنيد الجهاديين.

يضيف ليمان: «جنّد «داعش» في الماضي جزءاً من عناصره عن طريق تجار المخدرات في الحي. قصد خالد الزركاني، المسؤول الأساسي عن عملية تجنيد العناصر، الحانات التي تبيع المخدرات وحوّل التجار إلى مجندين لديه... حصل ذلك أيضاً في الحانة التي يديرها الأخوان عبدالسلام». كان الزركاني مواطناً بلجيكياً مولوداً في المغرب، وأصبح واعظاً متطرفاً يجنّد الشبان لضمّهم إلى الجماعات الإرهابية في المساجد السرية في «مولنبيك»، وكان على صلة بعبدالحميد أبا عود، صديق الأخوين عبد السلام والعقل المدبّر لاعتداءات باريس.

كان أبا عود يقصد حانة «ليه بيجوين» التي يديرها الأخوان عبد السلام بانتظام، علماً أنها أُغلِقت لأنها تبيع المخدرات قبل أسبوع من اعتداءات باريس. في نوفمبر 2015، قالت فرانسواز شيبمانز، التي كانت عمدة «مولنبيك» حينها: «نفذت مجموعة من مهرّبي المخدرات نشاطاتها في ذلك المقهى. يشكّل هذا الانحراف خطوة صغيرة أخرى باتجاه التطرف».

يعيش بهادير 27 عاماً في حي «أندرلخت» المجاور، وهو من أصل تركي. هو يتكلم بدوره عن الروابط المحتملة بين تهريب المخدرات والتطرف، فيقول: «هذه العوامل كلها متداخلة. يبيع طفل سوري عمره 10 سنوات المخدرات بالقرب من منزلي يومياً. يتحكم به تاجر أكبر سناً ويستغله بكل وضوح».

بعد أشهر على اعتداءات باريس، استثمرت الحكومة البلجيكية 39 مليون يورو «43 مليون دولار» في عدد من بلديات بروكسل، بما في ذلك «مولنبيك»، لتطوير الاقتصاد المحلي، وبناء مراكز اجتماعية، وتقوية سلك الشرطة. لكن يقول ليمان إن تلك الجهود بدأت تتلاشى منذ ذلك الحين.

بعد حوادث إطلاق النار الأخيرة، اجتمعت وزيرة الداخلية البلجيكية، أنيليس فيرليندن، مع مورو واتفقتا على نشر عشرين وحدة شرطة إضافية في المنطقة. كذلك، اقترحت فيرليندن تكثيف التعاون بين مختلف أقسام الشرطة في المدينة لتحسين حملة مكافحة الجرائم.

يرحّب بعض السكان، من أمثال بلعلي وبهادير، بزيادة وحدات الشرطة في المنطقة، لكنهم يعترفون بأن العلاقة القائمة بين وكالات إنفاذ القانون والسكان متوترة. يقول بهادير: «في إحدى المرات، رمى جيراننا الحجارة على عناصر الشرطة حين أتوا للزيارة». وتضيف بلعلي: «لا يحبّذ فتيان الحي حضور الشرطة لأنهم يشعرون بأنهم مستهدفون».

* أنشال فوهرا

Foreign Policy