الحزب الجمهوري يتمرد على القانون
الحزب الجمهوري ليس تحت تأثير مدير الحلبة الحالي بل يحاول مع سبق الإصرار تقويض حكم القانون وإحلال الدولة الديموقراطية، ويجب ألاّ يقع الشعب في فخ الغضب الأخلاقي الزائف للحزب، وحيله الرخيصة، وخداعه، فقد حان الوقت لوقف هذه المسرحية.
في عام 2017، عندما أغلِق سيرك Ringling Brothers and Banum & Bailey ) الإخوة رينغلينغ وبارنم وبيلي «بعد ما يقرب من 150 عاما، أصبح التبهرج السياسي الذي تتسم به رئاسة دونالد ترامب» أعظم مسرحية على وجه الأرض، أو على الأقل أصعب شيء يمكن تجاهله، والآن أصبحت التداعيات الإجرامية لعمل ترامب السياسي الرفيع المستوى المسرحية الجديدة التي يجب مشاهدتها.وحدث آخر مشهد من هذه المسرحية في 8 أغسطس، عندما نفذ مكتب التحقيقات الفدرالي أمرا بتفتيش «قصر الشتاء» (مارا لاغو) المكون من 58 غرفة نوم، والذي يملكه الرئيس دونالد ترامب، ووجدوا هناك أكثر من 20 صندوقا من المستندات، تحتوي 11 منها على ملفات مصنفة على أنها «سرية للغاية» كان ينبغي تسليمها إلى الأرشيف الوطني، وتشير الأدلة إلى أن ترامب ربما قد انتهك ليس فقط قانون السجلات الرئاسية بل قانون التجسس أيضا.وعندما ادعى ترامب أن منزله «تحت الحصار»، هرع أتباعه في الحزب الجمهوري على الفور للدفاع عنه، مُدعين أن اقتحام القصر كان وراءه دوافع سياسية، ولكن ترامب تلقى استدعاء بخصوص وثائق إضافية- يقال إن بعضها يتعلق بالأسلحة النووية- خلال ربيع هذا العام، وادعى أحد محاميه، كتابيا، أن جميع الوثائق السرية قد أعيدت، وبعد أشهر من محاولة تأمين تعاون فريق ترامب في إعادة الوثائق، اضطرت وزارة العدل إلى اللجوء إلى طريقة أكثر اتساما بالطابع المباشر.
والآن، تطالب وسائل الإعلام وبعض أنصار ترامب بالإفراج عن الإفادة الخطية التي قدمتها وزارة العدل لتبرير البحث، ويعترض المدعون العامون على أساس أن هذا قد يضر بالتحقيق الجاري، فالقصة لها العديد من الجوانب المُحيرة، لكن رد فعل الجمهوريين يبقى الأغرب، فعلى الرغم من أن حزبهم يدعي أنه يمثل «القانون والنظام» ويلتزم بالأمن القومي، فإنه قد استهزأ بصورة متزايدة بسيادة القانون (لا سيما مع مطالب الجمهوريين الأخيرة «بإلغاء تمويل مكتب التحقيقات الفدرالي»)؛ ويبدو أن اختراق أسرار الدولة أمر لا يقلقه.لقد تمرد الجمهوريون على القانون بسبب نظرة المحافظين الغريبة لما يشكل «سيادة القانون»، فعلى مدى عقود تأثر الفكر المحافظ بصورة متزايدة بالنهج الفقهي المعروف باسم «القانون والاقتصاد»، حيث تشوه حركة القانون والاقتصاد، وهي نتاج كلية الحقوق بجامعة شيكاغو، المسائل القانونية من خلال المنظور الاقتصادي، مما يؤدي إلى تجريدها من كل المحتوى الأخلاقي، فالقانون تحول إلى وسيلة لتحقيق غايات اقتصادية، وأصبح يستخدم كأداة من أجل تحقيق هذا الهدف، بدلاً من أن يمثل التزاما أخلاقيا من جانب المجتمع.وكان عالم الاقتصاد «رونالد كواس» الحائز على جائزة نوبل مثالاً يحتذى به في هذه المدرسة، وإن منظور الكفاءة الاقتصادية المتجسد في «نظرية كوز» يعني أن كيفية تخصيص حقوق الملكية لا تهم، طالما تخصص بوضوح وتخضع للتفاوض.فإذا كنت تملك شركة منبع تلوث نهرا وكانت هناك قرية تعتمد على ذلك النهر، فإن الطرف الذي يقدّر حقوقه أكثر سيشتري حصة الآخر، وإذا كان المبلغ الذي يرغب القرويون في دفعه لإزالة الضرر أقل مما سيُكلف المصنع لتجنب الضرر، فإن التلوث له ما يبرره اقتصاديا، ولكن إذا كانت تكلفة إزالة الضرر التي يتحملها القرويون أكبر مما سيكلف المصنع لوقف التلوث، فسيصل كلا الطرفين إلى اتفاق مالي يفيدهما ويساعد في حل النزاع. وعندما اكتسبت هذه المدرسة الفكرية تأثيرا في الدوائر السياسية والقانونية، فقد القانون أهميته الأخلاقية وأصبح نوعا من آلية سعر الظل، وفي الواقع، في حين أن النظرية القانونية عادة ما تتذرع بالجذور الأخلاقية العميقة، بل حتى الإلهية، لنفسها، فإن موقف القانون والاقتصاد أزال هذا الجوهر المعياري. لذلك، نظرا لأن الامتثال القانوني أصبح مسألة تكاليف ومزايا مالية، بدلاً من الصواب والخطأ، فقد تحول القانون إلى مشروع غير أخلاقي تماما، إذ لم يعد خرق القانون يتطلب التوبة، وإنما مجرد تسوية مشروع قانون، وأصبحت الحقوق مجرد سلعة أخرى قابلة للتداول، يتم الحصول عليها من قبل أي كيان يمنحها أعلى قيمة اقتصادية.وفي هذا العالم كل شيء معروض للبيع، وكل شيء له ثمن، بما في ذلك على ما يبدو رئاسة الولايات المتحدة، وهكذا خلقت حركة القانون والاقتصاد ظروفا سياسية مثالية تناسب دور ترامب في البيت الأبيض، إذ يعامل ترامب سيادة القانون بالوقاحة نفسها التي أظهرتها «وول ستريت» تجاه القوانين التنظيمية في الفترة التي سبقت الأزمة المالية لعام 2008. فالقانون لعبة يصبح فيها ارتكاب الأخطاء استراتيجية رابحة، ودفع الغرامات العقابية مجرد تكلفة تُدفع مقابل ممارسة الأعمال التجارية.ويتفاخر ترامب بمدى «ذكائه» في عدم دفع الضرائب، فأثناء وجوده في منصبه، حول البيت الأبيض إلى فرع من إمبراطوريته التجارية، وهو الآن يواجه ما يقرب من ستة تحقيقات قانونية (مدنية وجنائية)، وكلها تدعم عمليته الدائمة لجمع التبرعات، ولا يتغاضى الجمهوريون عن هذا المشهد المبتذل، بل يؤيدونه، لأنهم يدركون نهج ترامب على حقيقته: تتويج لأجندتهم الخاصة.إن السيرك عمل فني يقدم عروضاً تبدو عفوية وتثير إعجاب المتفرجين، وتنتج وهم التشويق من خلال إخفاء سنوات التدريب والتخطيط الدقيق لهذه العروض، ولا تختلف المهرجانات السياسية للحزب الجمهوري عن السيرك، فبكل بساطة الحزب ليس تحت تأثير مدير الحلبة الحالي؛ بل هو يحاول مع سبق الإصرار تقويض حكم القانون وإحلال الدولة الديموقراطية، ويجب ألاّ يقع الشعب في فخ الغضب الأخلاقي الزائف للحزب، وحيله الرخيصة، وخداعه، فقد حان الوقت لوقف هذه المسرحية.* أنتارا هالدار أستاذة مشاركة في الدراسات القانونية التجريبية بجامعة كامبريدج.
Project Syndicate
القانون تحول إلى وسيلة لتحقيق غايات اقتصادية وأصبح يستخدم كأداة لتحقيق هذا الهدف