مرضى من غير أطباء
ماذا يحدث لو سأل رئيس الوزراء وزير ماليته وبقية الوزراء عن جدوى الـ 50 هيئة ومؤسسة ومجلساً ولجنة للدولة، وكم تكلّف ميزانية الدولة اليوم، وهل يمكن تخسيسها إلى 5 هيئات أو صفر هيئة! تقرير «الشال» الذي (ويا خسارة بحّ صوت صاحبه من غير مستمع عند أهل السلطة) تكلّم عن هذه الهيئات التي خلقت في أكبر حكومة بالعالم، ولم يكن الغرض من خلقها سوى شراء ولاءات سياسية تحت بند خلق الوظيفة من دون مناسبة لأجل أشخاص غير مناسبين. يذكر التقرير، على سبيل المثال، مجلس شؤون المحافظات الذي تحدّث عنه الإعلامي علي خاجه، فهذا المجلس يوظف نحو 2000 موظف للرقابة على أداء نحو 200 موظف...! نكتة مخجلة عن عبَط دولة الرّيع، في بلد فيه المدير يراقب عمل إنسان من دون عمل، ورؤساء أكثر من المرؤوسين، هكذا تكون الإنتاجية والإدارة، ولّا بلاش!
ما جدوى الحديث، في مثال ثانٍ، عن الهيئة العامة لمكافحة الفساد، ولدينا جهاز نيابة عامة وتحقيق متكامل يمكنه تسلّم كل بلاغات الفساد، وحكايات الفساد هنا أكثر من شعر الرأس؟ عِدّوا واحسبوا بعين فاحصة تكاليف تلك المؤسسات والهيئات ببيروقراطيتها وعطالتها وازدواجية تخصصاتها. هل يعتقد أحد أن مجلس الأمة القادم، الذي يحلم به الكثيرون، سيكون سمناً على عسل مع السلطة لو فرضنا (يكاد يكون فرضاً مستحيلاً) سيوافق الحكومة في أي برنامج للإصلاح الإداري - السياسي، فيما لو قررت السلطة بتر هذا الورم السرطاني في المؤسسات والوظائف العامة، وتوفير تكاليفها على الميزانية العامة؟ يستحيل أن يحدث هذا، فالمجلس القادم لن يكون - في أحسن أحواله - غير مجلس شعبوي مثله مثل معظم المجالس السابقة، سيطالب هذا المجلس بالمزيد من الهيئات واللجان... إلخ، للتوظيف وللوساطات والمحسوبيات، وكلها صور غير مجرّمة في قوانين الدولة.المأساة في الدولة، ليست خطاباً عاماً يتضمن نسج أحلام وأوهام عن حكم القانون وإصلاح مؤسسات متهالكة وخلق قوانين تعدّل وتغيّر، هي قضية ثقافة اجتماعية عشائرية بأساس ريعي بطبيعتها ومتمددة من الأعلى للأسفل، في مثل تلك الثقافة البائسة تصبح الواسطة والمحسوبيات، وهي كلها صور من فساد اجتماعي ينعكس تلقائياً على علاقة السلطة مع المجتمع، أمراً لا يمكن تجنّبه أبداً، وهي القانون الحقيقي النافذ، وليست القوانين المكتوبة. العلاقات الأسرية - العشائرية هي السيد، وليست الفردية ومبدأ الجدارة والإنتاجية على نحو ما يحدث في الدول المتقدمة، بعد أن تجاوزت تلك الدول هذه المرحلة منذ قرون وخلقت مفهوم الدولة القانونية ذات السيادة كمعنى عامّ مجرّد، تشخيص الداء سهل، لكنّ علاجه صعب، يوجد مرضى ولا يوجد أطباء.