أكد المصوّر الفوتوغرافي اليمني عبدالرحمن الغابري أن «التصوير فنّ جماليّ عظيم لم ينلْ حظّه، خصوصًا في بلداننا»، لافتاً إلى أنّ حبّه وشغفه «يكمن في البقاء طليقاً مع الرعاة الذين يحبّون الحياة ويغنّون للحياة، فهذا العالم الذي أتوق إليه وسأعود إليه».

واعتبر الغابري أن «الحركات الإسلامية لعبت دورًا شنيعًا بعد الثمانينيات، حيث غزت الريف ودمّرت المجتمع اليمني المنفتح. كما أن ما نعيشه اليوم هو حرب مدمرة تجتث كل شيء، وهناك مَن انخرط مع أطراف الحرب، وهذه الأطراف مذهبية بحتة، ليس للمواطن اليمني أي علاقة بها.

Ad

وعلى الرغم من ذلك، نجد نوابغ كثيرة، سواء من النساء أو الشباب والشابات، وفعاليات ومنتديات ثقافية ومعارض فنية، تكافح قبح الحرب وأعداء الحياة».

ذاكرة اليمن المصورة

كلام المصور اليمني العريق، الملقب بـ «عين اليمن» و»مؤرخ اليمن بالصورة» و»ذاكرة اليمن المصوّرة»، جاء خلال الحلقة الحوارية لبرنامج «الجوهر» للتدريب الإعلامي، الذي تنفّذه أكاديميّة لوياك للفنون - «لابا»، في موسمه الثالث.

الحلقة التي توّجت جهود ورشة عمل أسبوعيّة حول «فنّ الحوار في وسائل الإعلام»، عُقدت افتراضيًّا، بمشاركة طلاب البرنامج في كل من الكويت واليمن ومصر ولبنان، تحت إشراف الإعلامية المتميزة لينا صوّان. فكان أن عادت بالمشاركين إلى ذلك الزمن الجميل الذي طبع صورة اليمن السعيد.

دور شنيع

ولفت الغابري، الذي تحدّث عن علاقةٍ وثيقةٍ مع دولة الكويت، وما تمثّله من مكانةٍ عظيمةٍ لديه، إلى أنّ معرضه الأول أقامه في ربوعها، كما غنّى فيها ونشرت الصحف الكويتية مقالاتٍ عن أعماله. وفي معرض إجابته عن سؤال للمشارك وهب عاطف، خرّيج اختصاص الاقتصاد من الجامعة اللبنانية الأميركية، قال الغابري: «منذ نهاية الستينيات وأنا أتعامل مع الناس، لكن لكل ظرف طبيعته. فالكاميرا كانت مستغرَبة ومخيفة أحيانًا، وكان هناك حذَرٌ منها، بسبب الطابع المتحفظ وما يُسمّى بالحركات الإسلاميّة، التي كانت تحذّر من الكاميرا وتدّعي أنها تشوه الواقع، وتغرس في عقول المجتمعات نوعًا من الرعب والخوف من التصوير.

أمّا في الأرياف، فالمسألة تختلف، حيث إن طيبة الريفيين في منتهى الجمال، ولم يمانعوا تصويرهم، بل على العكس كانوا يطالبون بطباعة صورهم وتسلّمها».

وأضاف: «للكاميرا تأثير ودور مهمّ جدّا، فهي توثق أهم مراحل المجتمع والتحولات. وقد رافقتُ اليمن بتفاصيله، وربطتني علاقة وطيدة بالزعماء، وكانت لي حكايات سياسية ومجتمعية، بينها مواقف طريفة ومؤلمة، سواء مع عامة الشعب والبسطاء أو مع عددٍ من السياسيين، غير أن الأخيرة لا يمكن الكلام عنها، وإلا يُعتبر ذلك إفشاءً لسر المهنة».

الأهازيج والأغاني

ورأى عبدالرحمن أن «حياة المجتمع اليمني الريفي التي وثّقها بعدسته، كانت مرحلة نقيّة جدًّا، غير أن المجتمع تحوّل، فالنساء بتْنَ بالخمار، لا يعملن في الحقول، وكذلك اختفت الأهازيج والأغاني التي كانت ترافق المواسم الزراعية وتبثّ العزيمة في صفوف الفلاحين.

كما أنّه بعد ثورة سبتمبر، كان المنهج الدراسي غير ملغّمٍ بالمذاهب والتعصب الطائفي والمناطقي، وكان الشباب اليمنيون متطلّعين ومثقّفين جدًّا، حيث شكّل مقاومة شعبية بالتوازي مع متابعته الدراسة والتحصيل العلمي، وأصبح بعضهم قادة وسفراء وباحثين وأطباء كبار. غير أن الحركات الإسلامية لاحقًا لعبت دورًا شنيعًا. لذلك، أحرص دومًا على الإشادة بالإنتاج الأدبي والفني المذهل الذي يقدّمه الشباب في مجال المسرح والتلفزيون والموسيقى، رغم الحرب الدائرة».

الصورة تجذبني إليها

وفي حين شكّلت مسيرته المهنية نوافذ للشباب اليمني والعربي على ذاكرة اليمن المصورة وعلى حضارة البلاد وثقافتها، أوضح الغابري أن «للصور حكايات تحكيها، وبعض الصور تكون صامتة، غير أنني كنتُ أستنطقها بكلماتٍ نثرية مقتضبة».

وردًّا على سؤال لعضوة رابطة الأدباء الكويتيّين المؤلّفة والرسّامة سارة الشيخ، قال: «دائمًا الصورة هي التي تجذبني إليها، والمجتمع اليمني كطقس اليمن متنوّع، سواء في الفنون والإبداعات الموسيقية النادرة أو في اللباس والمأكل. والريف اليمني تحديدًا مليء بالمفاجآت والجمال والطبيعة الخلابة، كما أنه متميزٌ ورهيب. فهل هناك أفضل من الكاميرا لتوثيق كل هذا الجمال والثرى والأغاني والشعر المغنّى والأهازيج والحكايات الأسطورية واليومية التي يرويها كبار السن والصغار، أضف إلى ألعاب الأطفال وأصوات الرعاة، بنقاوتها وفرادتها».

شخصيات سياسية

القناص البارع الذي أحيا بصوره تاريخ اليمن وهوية شعبه والتقطت عدسته صورًا لشخصياتٍ سياسية بارزة ولكبار الفنانين، كشف أنّه لم يستخدم طرق «الروتوش»، التي باتت اليوم تُعرف بـ «الفوتوشوب»، قائلًا: «كنتُ أودّ أن تكون الصورة على طبيعتها، وألا نحولها إلى ملصق، وإلا نكون قد خرجنا عن مصطلح التصوير باتجاه التصميم»، مبديًا أسفه لـ «قصور الوعي والثقافة حول مفهوم حقوق الملكية الفكرية في المجتمع العربي، حيث تستمرّ إلى اليوم سرقة أعمالي».

وفي سياق إجابته عن سؤال لطالب الدكتوراه في قانون الضرائب الدولي، المحامي بالاستئناف في بيروت، أنطوني مخول، أوضح المصوّر اليمني المحترف والمخرج السينمائي، أنّه يجد نفسه أكثر في التصوير، وأن إلمامه بالتصوير أسهم في نجاحه كسينمائي.

ظروف الحرب

عبد الرحمن، الذي برع كذلك كموسيقي وعازفٍ، استطاع أن يدون الواقع والجمال بأكثر من مليونَي صورة، فكان أن حصد العديد من الجوائز اليمنية والعربية والدولية. وإذ أشار إلى أنه لم يطلب الشهرة، تحدث عن تعمّقه بالمجتمع اليمني، أرضًا وإنسانًا، وعن تعمده التقاط صورٍ لكلّ شيء. وقال: «في جعبتي الكثير من المشاهد المؤلمة، من آثار الحرب في لبنان واليمن والعراق، لكنّني لا أحبّذ نشر صور الجثث، بل أحفظها للتاريخ وأوثّق مكانها وزمانها، وأكتفي فقط بصور الدمار».

وكشف أنّه لا يزال يمارس مهنة التصوير التي امتهنها أولاده كذلك، رغم ما يتعرّضون له من مضايقاتٍ في صنعاء. كما أنّه يقوم بأرشفة وترقيم وتصنيف كمّ هائل من الأفلام، أضف إلى سعيه لإنجاز مجلّدات، بدأ العمل عليها منذ نحو نصف قرنٍ.

الغابري، الذي لم يستطع أن يغترب، ولم يطلب اللجوء بتاتًا، بل رفض عروضًا كثيرة بهذا الشأن، سرد ارتباطه المتجذّر بوطنه الأم، رغم ظروف الحرب السيئة، وتعلّقه بأرشيفه الذي يختزل اليمن بكل وجوهه ومراحله.

وتعقيبًا على سؤال طالبة «الطب البشري» في القاهرة، فاطمة جمال ناصر، قال: «لم أكن مغتربًا، إنّما ذهبتُ للدراسة في سورية، وزرتُ لبنان أكثر من مرة، وسافرتُ إلى أوروبا والولايات المتحدة الأميركية وآسيا وإفريقيا، وأقمتُ معارض في كثيرٍ من الدول، غير أنّني لا أفارق اليمن».

عبدالرحمن، الذي ورث عشق الأرض والفلاحة من والديه، عبّر عمّا يختلجه من مشاعر جميلة لدى وجوده في قريته وحقوله، «فهناك أتنفّس، أغنّي وأرقص».

وإذ يُبدي حرصه على تصوير الجانب الجميل لوطنه، لم يخفِ «عين اليمن» أهمية توثيق الحرب الدائرة، «فهي مهمة إنسانيّة تقع على عاتق الصحافيين والفنانين»، معتبرًا أن «كلّ من يواصل الحرب والدمار قبيحٌ، مهما كان عذره. ويبدو كذلك نوع من الحقد على الحضارة اليمنية، فقد دُمرت مواقع أثرية عديدة، ولم أنشر منها سوى الجزء اليسير».

وجه القبح

من جهتها، سألت هبة نورالدين، (المُجازة في الإعلام من الجامعة اللبنانية)، عن سبب تركيز المصوّر اليمني المبدع على المرأة، فأجاب الغابري: «المرأة هي التكوين الأول، وهي عماد الأرض، سواء اليمنية أو غيرها، وبالذات اليمنية، لكونها الأم والأخت والزوجة والفلاحة، وهي التي تأتي بالحطب وتربّي وتطبخ وترعى الماشية.

وقد ركّزتُ على المرأة الريفيّة، بشكلٍ خاص، بعد أن تمّ الهجوم عليها وتعطيلها، رغم ما بذلته من أجل أسرتها والإنسان. فالحركات الإسلامية المتخلّفة والمرعبة كانت السبب خلف تعطيل المرأة، وتحويلها إلى كائنٍ سجينٍ بين 4 جدران، حيث أُصيبت بالأمراض. في حين أنّ المرأة هي كلّ شيء، هي مَن أوجدتنا، وهي مَن ننمو بظلّها، نحبّ ونعشق ونتزوّج ونحنّ، فلا وجود لنا من دونها. والمرأة ليست عورة ولا ناقصة، بل هي تجسيد للإنسانية بوجه القبح الذي يستهدفها».

وروى المصوّر الفوتوغرافي الذي حوّل عدسة كاميرته إلى عينٍ ساحرة أظهرت روعة اليمن، أصالة شعبها وجمال نسائها، حرصه على المشاركة دومًا في فعاليّات المرأة، وعلى دعم الرسّامات والمغنّيّات والعازفات والكاتبات والشاعرات والروائيّات والمهاجرات اليمنيّات، من خلال تصويرهنّ وتشجيعهنّ ومناصرتهنّ».

عاطلٌ عن الحياة

وعن قوله إن «الصورة قاتمة في اليمن، وهذا نتاج إغفال الجانب الثقافي واحتقار الإبداع والمبدعين من قبل السلطات المتعاقبة»، ردّد عبدالرحمن: «نذرتُ نفسي لمكافحة القبح مهما كان، فالإنسان المحروم من حريّته، مضطهدٌ وعاطلٌ عن الحياة بمعناها الحقيقي، سواء المرأة أو الرجل. وعلى الشباب الاستفادة من الماضي والتطلّع نحو التغيير، ودفن القبح وتحقيق الأجمل والأروع».

وعرّفت رانيا العلي، إحدى المشاركات في «الجوهر»، الغابري بلقبه «صائد الجمال في اليمن»، متسائلةً إن كان يستخدم الهاتف في التصوير، فكشف عبدالرحمن أن «المضايقات التي يتعرّض لها من قبل السلطات، دفعته للّجوء إلى الهاتف. فالكاميرا تحتاج إلى تصريحٍ ورسومٍ وأيامٍ عديدة للموافقة، والمصوّر وقته ثمين جدًّا ولا يمكنه الانتظار».

وسأل المصوّر بدر السواري، ضيف «الجوهر» عن التحديات، فأجاب عبدالرحمن: «عانيتُ وكدتُ أموت في بعض الحروب، وهناك بعض السياسيين اقتربت منهم، وكان من الممكن أن يقتلني حرّاسهم، أضف إلى تحديات تصوير المرأة في مجتمع محافظ. لكنّني كنتُ ولا أزال ألتقط كل شيء يستهويني وأجده مثيرًا للدهشة والجمال».

ولفت إلى أن «الحضارة اليمنية طالما قامت على الزراعة التي تمنحنا الغذاء لأجسامنا، والجمال لأرواحنا وحياتنا وعيوننا وقلوبنا، وهي مرتبطة كذلك بالفنون، باعتبارها حافزًا أساسيًّا للإنتاج، منذ غرس البذور حتى الحصاد»، مذكرًا بارتباط الطبيعة ذاتها بالموسيقى، من تمايل الأشجار ونغمة المطر الجميلة إلى صوت الطيور والحيوانات وغيرها الكثير».

وكانت صوّان قد أعربت عن فخرها بالغابري، لما يمثّله من شخصيةٍ فنيّةٍ متميّزةٍ، وأشادت ببرنامج «الجوهر» ومواهب الطلاب وقدرتهم على إدارة حوارٍ شيّق ومتنوّع. كما أثنت على جهود رئيسة مجلس إدارة «لوياك»، الرئيسة التنفيذية لأكاديمية لوياك للفنون (لابا)، فارعة السقاف، واصفةً إيّاها بـ «سيّدة الإعلام الأولى، لما تقدّمه من قيمةٍ رفيعةٍ في المجال الإعلامي، لكونها تفتح الأبواب للرقيّ بالمهنة». وتمنّت لليمن وأهله التمكّن من لقبهم الثمين «اليمن السعيد».

خبرة ومواهب

أعربت السقاف عن فخرها واعتزازها بالغابري، آملةً استضافته في الكويت للاستفادة من خبرته ومواهبه مجتمعةً، قائلةً: «لليمن معزّة خاصّة، وأنتَ بين أهلك». كما توجّهت بالشكر إلى صوّان «التي نرى فيها إضافة كبيرة لـ «الجوهر» ولتطور الطلاب في المجال الإعلامي»، مبديةً إعجابها بجهود الطلاب وأدائهم الحواري.

يُذكر أن برنامج «الجوهر» للتدريب الإعلامي، البرنامج الأول من نوعه في المنطقة، يُنفّذ في موسمه الثالث برعاية شركة المركز المالي الكويتي (المركز)، جريدة «الجريدة»، شركة الصناعات الهندسية الثقيلة وبناء السفن (هيسكو) وفندق فوربوينتس شيراتون. يقدّم البرنامج للشباب العرب ورش عملٍ إعلامية مكثفة على يد أبرز الإعلاميين العرب، لتدريبهم على فنون ومهارات الحوار الإعلامي، لمحاورة ضيوف رياديين تركوا بصمة في شتى المجالات بالوطن العربي.