أهداني كتابه الذي زيّن المساحة الفاصلة بين دفتيه بشذرات من نباهته مدّعياً أنها «من وحي الحماقة»!أجّلت فرصة التنزه بين جنائن بَوْحه بسبب انشغالاتي اليومية، وربما كان التريث بسبب تهيّب خفيّ من مقاربة هذه «الحماقة» اللافتة.
فالحماقة في خواطره لها ألف وجه وادعاؤها له ألف دلالة... الحماقة في عرفه هي «كبرياؤه المجروح»، هي حبه «الأبدي لجسد منزو»، هي «مخزون فكري» دفّاق ورقراق، هي روح تنتمي إلى «صوت فيروز» وتنشد القرب من «الملائكة».الحماقة المزعومة هي الذوبان رقّة كـ«قطعتي سكر» مع من تشاركه إبداعه وتعطي لحياته معنى ومذاقا.الحماقة التي ظلّلنا بفيء وحيها هي ابتسامة فرح بوجه «الوطن، الأمة العربية والوحدة»، وهي تمرد على جنون «النصر المزعوم»، ورفض الغوص في «وحل الهزيمة» التي أفلحنا بتغطية وجهها البشع بقناع «النكسة»!مدعي «الحماقة» هو صديقي الرؤيوي المستعد أن يبارز «بالحجة مع حزام ناسف» من أجل «الحبيبة» و«الوطن» و«الحقيقة».هو الهامة المحلّقة فوق كل رؤوس الجهلة العاجزين، وما أكثرهم! وهو المرتفع سمواً فوق كل حماقات مجتمعاتنا وإخفاقات أجيالنا وإحباطات مبدعينا... هو العزيز إبراهيم الكندري؛ الإنسان بفطرته، المثقف بإرادته، المواطن بحقيقته، المحب بطبعه والشاعر بفعل كل ما سبق.***ولأن مدّعي الحماقة «يقف بإباء في عصر الأغبياء» أفهمه وأدعو له ألّا يحبطه الجهل وألّا يثنيه التجاهل! لأن الفارس المبارز انتصر في معركة حبّه الشغوف وأهدى في نزال العاطفة «جسده وروحه ومخزونه الفكري وفتات وطن» دائم الحلم به كي لا يصبح «ذكرى»، أرجو أن يمد الله بنعمة شراكته الرقيقة وأن يستفيق من حلمه على وطن أجمل من الحلم يتيح لنا أن نحقق فيه أحلامنا.ولأنه طرّز بـ«أبيض الشعر» مخطوطة «شعرية» فيها الجزيل من الصفاء والغزير من النقاء والكثير من الحب والوطنية، أشكره منحنياً أمام فطنة «حماقته» وصلابة إرادته.***أعرف تماماً أن صاحب الإرادة الصلبة والفكر الرؤيوي والوطنية الصادقة، لا يريد أن ينقله «وحي الحماقة»- التي ادّعاها- من حيث رتّب أوراقه وبرمج أفكاره وهيّأ مساراته الى صخب الشعر وبهاء الضوء الذي يفضّل كثيراً أن يبقى خارج دائرته كمواطن حقيقي وكمسؤول حكومي لا يشغله الا الوطن وناسه.أدرك حقاً أن طروحات وجهود ويوميات إبراهيم الكندري تشغلها هموم الوطن واحتياجات إخوانه المواطنين أكثر مما يشغلها رونق الشعر وتأثرها بجمالياته، ورغم أنه ليس من السهل أن تجد للشعر موطئاً في غابات الصخب، لدي قناعة راسخة بأن من جميل الأقدار أن تحاك الوطنية بأنامل شعرية وأن يغزل الشعر على مفارق الأوطان وأن تتحقق الإنجازات الكبرى من أحلام المثقفين الصادقة.***إبراهيم الكندري، ورغم تميّز تجربته وفرادة طرحه وصدق انشغاله بهموم الوطن، ليس حالة نافرة أو غريبة في مجتمع يعجّ بالمثقفين ويضجّ بصرير الأقلام ويموج بالأفكار، لكنه في الوقت نفسه عينة من نخبة فاقت أفكارها وطموحاتها واقعاً لم يرتق الى مستوى الغايات والأحلام.لم يتح لإبراهيم في الإدارة أن ينجز بالإرادة ما حققه في حياته الخاصة وفي عمله الخاص، كما لم يتمكن المئات من أمثاله أن يملؤوا الفراغ المدوّي بما يشغله من نتاج! فهل هي الأحلام التي تتخطى مقدرة الإرادة أم هي الإدارة التي لا تتقن التعامل مع الأحلام الكبرى؟لقد فضل إبراهيم الكندري النزول الطوعي عن كرسي المسؤولية الإدارية ليس عن ضعف أو لهروب من التحديات التي خبر أساليب مواجهتها منذ نعومة أظفاره، ولكن لأنه أدرك تماماً- بعد عدة تجارب ومحاولات- أنه لا يتحكم في كل عناصر الإنجاز، وأنه مهما حرك المياه الراكدة فلن تستطيع حركته أن تعيد للماء المعكّر نقاوته، وها هو الآن يشتغل من مقعد الوطنية بجهد وصدق ورؤية وأمل. تاريخ الكويت- كما حاضرها- يرتبط بالثقافة والمثقفين أكثر مما يرتبط ظرفياً بثروة ناضبة؛ فمن خلال «العربي» حفر اسم الكويت في وجدان كل عربي، ومن أروقة «عالم الفكر» انتقل المثقفون العرب الى «فرجان» دولة تلألأت ثقافة أكثر مما شعّت لؤلؤاً على شاطئها المشرّع أمام الشعوب والحضارات المختلفة.بفضل المثقفين والمبدعين اختيرت الكويت عاصمة للثقافة العربية عام 2001، كما أعلنت عاصمة للثقافة الإسلامية في العام 2016، فكلما احتضنت الثقافة ودعم المثقفون، اطمأننا أكثر على مستقبل التنمية المجتمعية والإنجازات الوطنية.المثقف هو الأكثر التزاماً بالمسؤولية الوطنية وهو الأشد وعياً لأهمية العمل الصادق، كما أن الثقافة هي المنطلق الرئيس والوحيد للتجارب الناجحة، وهي المسار الإجباري للإنجاز.***شكراً إبراهيم لأنك- كما أمثالك من النخب المثقفة- أتحت لكل مشحون قلقاً على مصير مجتمعاتنا أن ينتقل من وحي فطنتك وصلابة إرادتك الى الاستبشار خيراً؛ إذ بقي فينا من نراهن عليهم لمجد أوطاننا ومصير أجيالنا المشغولة بكل شيء إلا بمستقبلها! * كاتب ومستشار قانوني
مقالات
من وحي الإرادة والثقافة
06-09-2022