على الرغم من أن توصية مجلس الوزراء في جلسته الأخيرة بشأن مقترح تحديد أسقف الإنفاق في الميزانية العامة للدولة للسنوات المالية الثلاث المقبلة لم تكن الأولى من نوعها، فإنها تأتي في وقت يسود التفاؤل الشارع الكويتي تجاه العديد من الملفات ومنها الاقتصادي.ومع أن مجلس الوزراء سبق خلال السنوات الأربع الماضية أن وضع سقوفاً سابقة للميزانية العامة للدولة بهدف ضبط الإنفاق، لكنه لم يستطع المحافظة عليها نتيجة الانفلات المالي من مجلس الوزراء نفسه برفع الإنفاق على مصروفات العلاج بالخارج، وشراء ولاءات النواب والناخبين من خلالها، أو بسبب سوء تقدير المصروفات من وزارة المالية، كتناسي إدراج قيمة نفقات واجبة السداد كمكافآت نهاية الخدمة للمدرسين أو تعويض نقص مخزون الأدوية وغيرهما، ومع ذلك فثمة بصيص من التفاؤل يجب المحافظة عليه وتطويره لا سيما مع إعلان الحكومة توجهها بعدم إقرار الميزانية العامة للدولة للسنة المالية (2022-2023) بمراسيم ضرورة، بل الانتظار لما بعد الانتخابات الحالية وإقرارها من مجلس الأمة؛ مما يعطي مؤشراً لرغبة في مناقشة فنية غائبة منذ سنوات طويلة للميزانية العامة؛ ربما تفضي إلى مراجعة لأوجه الهدر المتعددة في الإنفاق العام.
فالميزانية الحالية، حسب آخر تقرير للجنة الميزانيات البرلمانية، تفوق التقديرات في الميزانية للسنة المالية (2022-2023) التي تقدمت فيها وزارة المالية بـ 5.24 في المئة، أي إن اجمالي مصروفاتها يبلغ 23.1 مليار دينار، وهي بلا شك إحدى أكبر الميزانيات التي تشهدها البلاد في تاريخها، وتمثل جانباً من تقويض أي اجتهاد لوزارة المالية، ولو كان في حدوده الدنيا بتقديم محاولة لأول خفض في الإنفاق منذ عام 2014 لنعود مجدداً إلى ميزانية ضخمة تتجاوز بقليل قيمة الإنفاق العام للسنة المالية السابقة المتضخمة أصلاً.ولعل التريث في إقرار الميزانية حتى ما بعد فترة الانتخابات، قد يعطي فرصة لإعادة تقييم درجة التفاؤل بأوضاع سوق النفط عند معدّيها فالميزانية الجديد تعول بدرجة عالية على الأسعار المرتفعة للنفط والإنتاج المتصاعد لتحقيق سعر تعادل للميزانية يبلغ 75 دولاراً للبرميل، بما يقل عن سعر التعادل في العام الماضي البالغ 86 دولاراً للبرميل بـ 14.6 في المئة، غير أن أوضاع سوق النفط اليوم باتت تختلف بدرجة كبيرة عن بداية العام الحالي، ولم تعد عوامل الدعم التي توفرت للسوق خلال الأشهر الماضية فاعلة، خصوصاً مع تبني البنوك المركزية الرئيسية في العالم سياسات متشددة تجاه التضخم سعياً للسيطرة على التضخم مع تنامي الحديث والمخاوف من الدخول في دائرة الركود التي تؤثر سلباً على الطلب في أسواق السلع لا سيما النفط.وفي الحقيقة، فإن الميزانية العامة للدولة تحتاج إلى كثير من الجهد لضبط المصروفات، أوله يبدأ عبر الحد من الهدر الصارخ في الإنفاق العام من خلال ضبط نفقات عقود الاستشارات والدورات المهمات الرسمية ومزايا القياديين، وصولاً إلى مراجعة نفقات العلاج في الخارج وتأمين المتقاعدين في دولة تقدم الخدمات الصحية مجاناً لكن الضبط الحقيقي للمصروفات وبشكل مستدام يجب أن يكون نتيجة لسياسات إصلاح اقتصادي ومالي تضمن تخفيف أعباء المالية العامة، لا سيما بندي الرواتب والدعوم دون المساس بأوضاع الطبقة المتوسطة.بالطبع، فإن تقليص الإنفاق وترشيده جانب مهم في مسألة إدارة المالية العامة، لكنه لا يعفي من حتمية تطوير جانب آخر، وهو المتعلق بالإيرادات العامة وتحديداً بند الإيرادات غير النفطية المقدر بالميزانية عند 9 في المئة فقط، فالإيرادات غير النفطية هي التي تبين كفاءة النشاط الاقتصادي في البلاد من عدمه، وهي التحدي الأكبر للسلطة التنفيذية على اعتبار أن بيع النفط وتحصيل إيراداته مرتبط بعوامل دولية كالعرض والطلب صعوداً وهبوطاً، بالتالي لا فضل لنا في إيراداته، وعليه فإن رفع الإيرادات غير النفطية يتطلب من الإدارة المالية للبلاد تطوير البيئة الاستثمارية الملائمة لتحصيل العوائد الضريبية من الأنشطة والأعمال.وخلال السنوات الماضية، كانت المالية العامة للدولة ضحية شراء الولاءات السياسية، بل شهدت السنة الماضية انفلاتاً في تحميل الميزانية العامة للدولة مسؤولية إخفاق السلطة التنفيذية في عملها أو لحماية أعضائها من الاستجوابات، فرصدت ملياري دينار لتمرير زيادة رأسمال بنك الائتمان، ومكافأة الصفوف الأمامية، وتأجيل سداد أقساط القروض، ومنحة المتقاعدين، وغيرها من التكاليف المالية الباهظة، التي عمقت أزمة المالية العامة، ولم تفلح حتى في حماية الحكومة السابقة من الحراك الشعبي الذي أطاحها في نهاية الأمر.لا شك أن تحديد أسقف الإنفاق في الميزانية العامة للدولة مسألة جوهرية، لكن يجب أيضاً التعامل معها كبوابة لإصلاح الإدارة المالية في البلاد، فيكون النجاح في تحقيق هذا الملف لسنوات متتالية أحد معايير تحديد درجة كفاءة الحكومة في إدارة الملفات الاقتصادية والمالية.
اقتصاد
تحديد سقف الإنفاق... أولى خطوات وقف الهدر
08-09-2022