بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، فرضت البلدان الغربية عقوبات غير مسبوقة على الكرملين، تلاحقت التحليلات حول تداعيات مصادرة الأصول، وحظر الرحلات الجوية، وفرض القيود المالية، لكن لم يتكلم الكثيرون عن ضوابط التصدير التي يستعملها الغرب في الفترة الأخيرة لمحاولة احتواء روسيا، حيث فرضت الولايات المتحدة و37 بلداً آخر نظاماً جديداً ومعقداً من ضوابط التصدير ضد روسيا بطريقة عالية التنسيق، تمنع هذه الضوابط تصدير تقنيات استراتيجية إلى روسيا، بما في ذلك أشباه الموصلات، والإلكترونيات الدقيقة، ومعدات الملاحة، وقطع الطائرات، إذ تشبه هذه التدابير ضوابط التصدير الغربية التي حققت نجاحاً هائلاً في الماضي، وساهمت في عزل الاتحاد السوفياتي واحتوائه وصولاً إلى هزمه في نهاية المطاف.

قد تؤدي ضوابط التصدير، حين تعطي مفعولها بعد فترة من الزمن، دوراً محورياً في إضعاف قطاع الدفاع الروسي واستنزاف قدراته العسكرية المستعملة لشن الحروب، فلا يزال اتكال شركات التصنيع الروسية على القطع والآلات الأجنبية مفرطاً، رغم محاولات موسكو زيادة اكتفائها الذاتي محلياً عبر برنامج استبدال الواردات الذي أطلقته في عام 2015، ونظراً إلى تراجع الإنتاج المحلي لأهم التقنيات، لن تتمكن روسيا من الصمود في ساحة المعركة من دون تأمين هذه المعدات الأساسية من أماكن أخرى، ولهذا السبب، تُعتبر ضوابط التصدير أداة قوية لكبح قدرة روسيا على إعادة ملء مخزون الأسلحة والذخائر.

Ad

يملك الحلفاء الغربيون خبرة واسعة في هذه الممارسات، فقد منعوا الاتحاد السوفياتي سابقاً من الوصول إلى تقنيات أساسية، وفي بداية الحرب الباردة، استعمل الغرب ضوابط تصدير متعددة الجوانب لوقف تدفق معدات وتقنيات استراتيجية إلى الكتلة الشيوعية ومنعها من التفوق عسكرياً، وشهد المشهد التكنولوجي العالمي تحولات جذرية منذ ذلك الحين، لكن لا تزال المسائل المحورية في ضوابط التصدير على حالها، لا سيما تلك المتعلقة بإقامة توازن بين الأمن القومي والمصالح الاقتصادية، وضمان تقاسم جميع المشاركين المنطق الكامن وراء القيود المفروضة، وتحديد نطاقها المناسب كي لا تكون محدودة أو مكثفة أكثر من اللزوم، والتأكد من تطبيق الضوابط بالشكل المناسب، وخلال الحرب الباردة، حققت السلطات الوطنية هذه الأهداف بالتعاون مع «اللجنة التنسيقية للرقابة متعددة الأطراف على الصادرات» التي توقّف عملها في عام 1994.

تُعتبر القيود الغربية الجديدة ضد روسيا من أكثر الضوابط الشاملة التي تستهدف بلداً واحداً منذ الحرب الباردة، فقبل الغزو الروسي، كانت ضوابط التصدير القائمة تغطّي مجموعة صغيرة من المعدات العسكرية المتقدمة والتقنيات مزدوجة الاستعمال، ولم تُطبَّق بصرامة في جميع الحالات، واليوم، وللمرة الأولى منذ نهاية الحرب الباردة، توافق الدول الغربية على توسيع نطاق الضوابط بما يتجاوز الأنظمة الراهنة لتقييد الصادرات متعددة الأطراف، منها «اتفاق فاسنار»، و«مجموعة أستراليا»، و«نظام مراقبة تكنولوجيا القذائف»، و«مجموعة الموردين النوويين»، وتحصر هذه المجموعات كلها تركيزها بأسلحة الدمار الشامل، أو منع الانتشار النووي، أو حظر أسلحة محددة.

تشمل الضوابط الجديدة المفروضة على الصادرات الموجهة إلى روسيا أربعة أنواع من القيود:

أولاً، تمنع هذه الضوابط تصدير أو نقل أو إعادة تصدير السلع، أو البرمجيات، أو التقنيات الأساسية إلى قطاعات الدفاع والفضاء الجوي والقوات البحرية الروسية، ولزيادة فاعلية هذه القيود، يجب أن تنطبق أيضاً على بيلاروسيا، أقرب حليفة لروسيا.

ثانياً، فرضت الولايات المتحدة «قانون المنتج الأجنبي المباشر»، بالتنسيق مع الحلفاء والشركاء، وهو يحدّ قدرة روسيا على تلقي المنتجات أجنبية الصنع عبر استعمال البرمجيات والتقنيات الأميركية، وقبل المرحلة الراهنة، لم يُفرَض هذا القانون الصارم إلا ضد شركة الاتصالات الصينية العملاقة «هواوي» ولم يستهدف يوماً بلداً بأكمله.

ثالثاً، فُرِض حظر شبه كامل لمنع تصدير السلع أميركية الصنع إلى الجيش الروسي.

رابعاً، أُضيف أكثر من مئة كيان إلى «قائمة الكيانات» التي جمعها مكتب الصناعة والأمن في وزارة التجارة الأميركية، بما في ذلك شركتا «روستيخ» و«سوخوي للطيران»، وتخضع الشركات الواردة في هذه القائمة لعقوبات جارفة، فتعجز روسيا بهذه الطريقة عن تلقي السلع التي تحتاج إليها لاستعمال قوتها وتحقيق طموحاتها الاستراتيجية.

لكن يملك الكرملين خبرة واسعة في التصدي للعقوبات والتحايل عليها، وقد حلل تقرير جديد صادر عن «المعهد الملكي للخدمات المتحدة» 27 نظاماً من الأنظمة العسكرية الروسية الأكثر حداثة، بما في ذلك أنظمة الاتصالات، وصواريخ «كروز»، ومعدات الحروب الإلكترونية، واستنتج أنها تشمل 80 نوعاً مختلفاً من القطع الخاضعة لضوابط التصدير الأميركية على الأقل، قد تؤثر نتائج هذا التقرير بقوة على فاعلية ضوابط التصدير.

أولاً، يبدو الاندماج العسكري المدني في روسيا مقلقاً بقدر الاندماج الحاصل في الصين. يستعمل محللو الدفاع الأميركيون مصطلح «الاندماج العسكري المدني» للدلالة على استراتيجية الصين الوطنية لتعزيز قدراتها العسكرية عبر إلغاء الحواجز القائمة بين قطاع الدفاع ومؤسسات الأبحاث المدنية ظاهرياً، حيث يُعتبر تلاشي الخطوط الفاصلة بين القطاعات العسكرية والمدنية ظاهرة روسية أيضاً.

تحمل روسيا تاريخاً طويلاً في مجال التجسس العلمي والتكنولوجي، وخلال الحقبة السوفياتية، استهدفت أجهزة الاستخبارات في موسكو أهم شركات الحواسيب وأشباه الموصلات الغربية، لا سيما في الولايات المتحدة واليابان، كجزءٍ من حملة شراء غير شرعية، وفي الفترة الأخيرة، تورطت المعاهد البحثية الروسية في عمليات التجسس الصناعي عبر إعادة توجيه سلع أساسية إلى قطاع الدفاع، وفي شهر أبريل الماضي مثلاً، أُدين عالِم روسي يعمل في جامعة «أوغسبورغ» في ألمانيا بتهمة التجسس، لأنه نقل معلومات حول تكنولوجيا أوروبية لقذف الصواريخ إلى الاستخبارات الروسية، وفي آخر دفعة من العقوبات، استهدفت الولايات المتحدة عدداً من الكيانات المتطورة تكنولوجياً والمدنية ظاهرياً، بما في ذلك «معهد موسكو للفيزياء والتكنولوجيا» و«مؤسسة سكولكوفو». كثّفت المعاهد البحثية تعاونها مع عدد من الكيانات الدفاعية الروسية، منها «أورالفاغونزافود»، أكبر مُنتِجة صهاريج في روسيا، و«ألماز أنتي»، أكبر مُنتِجة أسلحة في روسيا، و«شركة الطائرات المتحدة» للدفاع والفضاء الجوي.

ثانياً، يُعتبر إعفاء المنتجات الاستهلاكية طريقة لحماية المواطنين العاديين من العواقب، لكنه قد يعطي نتائج عكسية ويُضعِف القيود المفروضة. قد تستفيد الشركات الروسية والبيلاروسية الواردة على «قائمة الكيانات» المستهدفة من الإعفاءات في مجال التقنيات الاستهلاكية، بما في ذلك الحواسيب، وأجهزة الذاكرة، والكاميرات الرقمية، وأجهزة التحكم بالشبكات، والبرمجيات، فوفق هذه النظرية، يقال إن نشر تلك التقنيات في روسيا يُصعّب على الحكومة الروسية السيطرة على الرسائل التي تصل إلى الشعب الروسي.

قد يكون تقليص الأضرار الجانبية التي يتحملها الروس العاديون ضرورياً في حرب المعلومات، لكن قد يستغل قطاع الدفاع الروسي هذه الإعفاءات لمصلحته، إذ يكشف تقرير «المعهد الملكي للخدمات المتحدة» حالات كانت أشباه الموصلات فيها مُعدّة للاستعمال المدني، لكنها استُعمِلت في نهاية المطاف لتصنيع الأسلحة الروسية، وفي شهر مايو الماضي، ذكرت وزيرة التجارة الأميركية، جينا ريموندو، أن روسيا لجأت على ما يبدو إلى المعالِجات الدقيقة في غسالات الصحون والثلاجات لإعادة التزود بالرقائق المتضائلة واستخدامها في المعدات العسكرية، وقد لا تضمن إعادة استعمال أشباه الموصلات الاستهلاكية لأغراض عسكرية إنتاج أسلحة بجودة عالية، لكنها تسمح للجيش الروسي بنشر أعلى درجات الفوضى في ساحة المعركة، ومن خلال تغيير استعمالات الرقائق القابلة للبرمجة، تستفيد روسيا على ما يبدو من استخدام التقنيات الاستهلاكية لإضعاف مفعول ضوابط التصدير.

أخيراً، لا يمكن منع وصول السلع الأساسية بالكامل، نظراً إلى صعوبة السيطرة على عمليات إعادة الشحن من موردين في بلدان أخرى، وعند العجز عن رصد تقنية معينة جغرافياً والسيطرة عليها، يصبح اقتناؤها عبر شبكات سرية تديرها أطراف ثالثة مسألة وقت.

وتفيد التقارير بأن روسيا استعملت شركات خارجية في أماكن مثل هونغ كونغ وفيتنام لإخفاء هوية المستخدمين النهائيين، كذلك، تُعتبر إعادة تصدير السلع غير الخاضعة للرقابة نقطة ضعف أخرى في هذا المجال، كما جمع «المعهد الملكي للخدمات المتحدة» قائمة طويلة من السلع الاستهلاكية التي ينخفض مستواها التكنولوجي وأُعيد استعمالها لتصنيع الأسلحة الروسية، ويمكن شحن هذه السلع إلى روسيا وبيلاروسيا إذا لم تكن مُعدّة للاستعمالات العسكرية، ويصعب التحكم في تلك السلع لأنها ليست واردة في «قائمة التحكم التجاري»، وهي تتطلب تعقباً دقيقاً للتأكد من استعمالها بالشكل المناسب، ويبقى اللجوء إلى الوسطاء لتغيير استعمالات القطع وإيصالها إلى مستخدمين عسكريين تكتيكاً شائعاً وسط منتهكي العقوبات، وعندما تشمل هذه الممارسات تكنولوجيا غير خاضعة لقيود صارمة أصلاً، تزداد سهولة هذه العملية.

يعكس نجاح ضوابط التصدير في الماضي قدرة هذه القيود على فرض عوائق متزايدة ضد الطرف المستهدف لمنعه من اقتناء أي تقنيات محتملة، وتبقى هذه الضوابط من أقوى أدوات الغرب لإثبات كفاءته الاقتصادية، حتى لو كانت تعطي مفعولها بوتيرة بطيئة، لكنها لن تؤثر تلقائياً بقدرة روسيا على شن الحروب، فهي تتطلب مراقبة متواصلة وتطبيقاً صارماً، ويُفترض أن تتأقلم مع تكتيكات موسكو التكيّفية التي تشهد تطوراً متواصلاً.

* ماريا شاغينا

Foreign Policy