تبدو فرصة إحراز تقدّم جريء في مساعي التكامل الأوروبي إيجابية اليوم أكثر مما كانت عليه منذ سقوط جدار برلين، فقد أعادت فرنسا انتخاب إيمانويل ماكرون الذي يُعتبر من أكثر الرؤساء دعماً لأوروبا، أما ألمانيا، فيقودها اليوم ائتلاف تعهّد بتحويل أوروبا إلى دولة فدرالية، بعد 16 سنة على عهد أنجيلا ميركل، وغداة الغزو الروسي لأوكرانيا، أنهت الدنمارك سريعاً حقبة انسحابها من السياسة الدفاعية الأوروبية المشتركة، وتدرك بولندا أكثر من أي وقت مضى أنها قد تخسر الكثير إذا ضعفت أوروبا. باختصار، تنذر الظروف الجيوسياسية الراهنة بتغيرات جذرية.بعد أزمة كورونا، أدركت أوروبا مستوى اتكالها الاقتصادي الدولي وحاجتها إلى التضامن، وفي غضون ذلك، بدأت حرب العدوان في أوكرانيا تزيد مشاعر الوحدة بطريقة لم يختبرها الأوروبيون منذ أزمة اليورو، ويبدو أن الأوروبيين تنبّهوا أخيراً إلى حجم يأسهم في ظل تصاعد المخاوف من توجّه الولايات المتحدة إلى انتخاب رئيس آخر يشبه ترامب.
لكن رغم هذا التضامن المبهر، تبدو أوروبا في حالة من الجمود، إذ لم يستوعب الاتحاد الأوروبي بالكامل انسحاب بريطانيا ولم يطلق علاقة جديدة مع لندن بعد، كذلك، لا يزال الاتحاد منقسماً حول نطاق وسرعة توسّعه، ولا يثق حتى الآن بقدرة المقاربات المالية الجريئة خلال أزمة كورونا على فرض شكلٍ من الفدرالية المالية، وفي الوقت نفسه لا تزال بروكسل تتصادم مع المجر بسبب انتهاكاتها لحُكم القانون، وهي تواجه اضطرابات مستمرة في البلقان، وتستمر أعباؤها المرتبطة بالمعاهدات الأوروبية التي تشكّل عائقاً أمام طرح مقاربات مشتركة في قطاعات محورية مثل الطاقة، والصحة، والسياسات المالية، والدفاع.أثار ماكرون إعجاب الرأي العام بخطاباته الداعمة لأوروبا على مر ولايته الرئاسية الأولى، لكن لم تتحوّل مواقفه بعد إلى نجاحات سياسية ملموسة، فبعد ترؤس فرنسا الاتحاد الأوروبي طوال ستة أشهر وبدء ولاية جديدة برئاسة ماكرون، لا بد من التساؤل: ما الذي يفسّر الفجوة المستمرة بين الأجندة الأوروبية الطموحة التي طرحها ماكرون وفشل معظم جهوده خلال ولايته الأولى؟تكمن المشكلة الحقيقية في نهج ماكرون، فمن الواضح أن خطاباته العظيمة دفعت القادة الأوروبيين الآخرين إلى التخلي عن جمودهم وإنكارهم للواقع، لكنها فشلت في إنشاء ائتلاف قادر على التحرك.سارع البرلمان الأوروبي إلى إضعاف دعوة ماكرون إلى تنظيم مؤتمر حول مستقبل أوروبا، بما يشبه الحدث الذي صمّمه خلال الحملة الانتخابية الأوروبية في عام 2019، باعتباره منصة لإطلاق إصلاحات مؤسسية عميقة، وقوبلت محاولته الجريئة لإعادة إحياء تلك المبادرة في خطاب 9 مايو في «ستراسبورغ» برفضٍ صارم.خلال ذلك الخطاب، ألمح ماكرون أيضاً إلى نشوء مجتمع سياسي أوروبي جديد يسمح لأوروبا بضمّ أعضاء جدد وتعميق تكامله مع الأعضاء القدامى، واعترف بأن هذه العملية تتطلب تعديلاً شاملاً لمعاهدات الاتحاد الأوروبي.بعد هذا الخطاب الطموح، يصعب أن نتخيل رداً أكثر كارثية، وفي يوم إلقاء الخطاب، نشر ائتلاف من 13 عضواً بقيادة السويد موقفاً قوياً لرفض ذلك الطرح، على اعتبار أن المؤتمرات لم تهدف يوماً إلى تطبيق الإصلاحات المؤسسية أو تعديل المعاهدات، بعد أقل من أسبوع، رفضت بلجيكا، وألمانيا، وإيطاليا، ولوكسمبورغ، وإسبانيا، وهولندا، أي تورط للقادة في هذه المرحلة واقترحت تشكيل «مجموعة عمل بيروقراطية متخصصة»، مما يشير إلى موت بطيء عن طريق الاستنزاف.وبعد أيام قليلة، واجه ماكرون اعتراضاً من 19 بلداً من أصل 27، مع أن أفكاره كانت ستحصد دعم الأغلبية لو ترافقت مع تحضيرات مكثفة وجهود دبلوماسية متقدّمة، وبعد هذه الهزيمة، تجد أوروبا نفسها اليوم من دون أجندة حقيقية لتقوية هندستها ومن دون خطة فاعلة لترسيخ التزامها تجاه جيرانها.تنجم هذه الإخفاقات عن ثلاث شوائب أساسية في سياسة ماكرون الأوروبية: إنها سياسة مبهمة، وأحادية الجانب، ولا تخدم إلا مصالح فرنسا الشخصية.تُعتبر هذه المقاربة مبهمة لأن موقف فرنسا لا يزال غامضاً في ما يخص الجوانب الأساسية من رؤيتها الأوروبية، فقد أعلنت ألمانيا صراحةً أنها تريد بناء نواة دولة فدرالية للاتحاد الأوروبي، لكن ماكرون يظن على ما يبدو أن التفوه بكلمة «فدرالية» يحمل تكاليف باهظة محلياً وينشر أفكاراً مثالية أكثر من اللزوم خارجياً، حيث يعني توسيع التصويت بالأغلبية المؤهلة الذي تدعو إليه فرنسا في مناسبات متكررة تجنّب حق النقض الذي تستعمله الدول الأعضاء الأصغر حجماً لإعاقة القرارات في مجالات مثل السياسات المالية أو الضريبية، لكن نادراً ما توضح فرنسا مدى استعدادها للتخلي عن حق النقض الذي تملكه في مجالات بالغة الأهمية، مثل السياسة الخارجية أو الدفاع، ومدى استعدادها لنقل السلطة التنفيذية إلى المفوضية الأوروبية وتوسيع صلاحيات البرلمان.رفض ماكرون في عام 2019 العملية التي تسمح بتعيين رئيس المفوضية من جانب الحزب السياسي الفائز في الانتخابات الأوروبية، فرسّخ الفكرة القائلة إن رؤيته الأوروبية هي مجرّد نسخة أخرى من «الديغولية»، بغض النظر عن صوابية موقفه.تبقى هذه المقاربة أحادية الجانب أيضاً لأن ماكرون يفضّل في جميع الحالات التحرك وحده على بناء التحالفات، ولأن سياسة فرنسا الأوروبية تبدأ وتنتهي معه على ما يبدو، لهذا السبب، قد تكون حكومته وأجهزته الدبلوماسية ومجتمعاته المدنية المؤثرة في أنحاء أوروبا أداة طبيعية لتضخيم آرائه، فهو يطغى عليها في معظم الأوقات، كذلك، نادراً ما تهدف مقاربته إلى بناء تحالفات تحمل أهدافاً مشتركة.أكثر ما يثير الدهشة هو النجاح المبهر الذي يُحققه ماكرون في الحالات القليلة التي يقرر فيها التحرك جماعياً: سمح التحالف الذي شارك في بنائه (ضد ألمانيا) في «سيبيو»، في عام 2019، باقتراب أوروبا من حياد الكربون، وكذلك، مهّدت الرسالة التي وقّع عليها في عام 2020، إلى جانب ثمانية أعضاء آخرين (ضد ألمانيا)، للمطالبة بإطلاق استجابة مالية مشتركة على أزمة كورونا وإقرار خطة تعافي الاتحاد الأوروبي بقيمة 750 مليار يورو (826 مليار دولار).أخيراً، تهدف مقاربة ماكرون تجاه الاتحاد الأوروبي إلى تحقيق مصالح فرنسا في معظم الأوقات، ويسهل أن يعتبرها البعض محاولة «نابليونية» لإعادة تشكيل أوروبا على صورة فرنسا وبما يتماشى مع مصالحها.يتّضح هذا الجانب على الأرجح في مجالَي السياسة الخارجية والدفاع، حيث تُعتبر طموحات ماكرون الجريئة بنشوء أوروبا مستقلة محاولة تطلقها قوة متراجعة للاستفادة من حجم أوروبا وقوتها للحفاظ على نفوذ البلد المتلاشي في مجال السياسة الخارجية.لكن العوامل التي تعتبرها أوروبا مؤشرات على تمسّك ماكرون بالأقوال بدل الأفعال تتعدد حول التكامل الأوروبي في قطاع الدفاع، منها عدم استعداد فرنسا لمناقشة موضوع تقاسم قدرات الردع النووي مع بقية دول أوروبا، وإصرارها على تسويق المجمع الصناعي العسكري الفرنسي بدل إنشاء مجمع أوروبي أصلي، وترددها في مناقشة تصويت الأغلبية المؤهلة في مجال السياسة الخارجية (مما يعني أن تخسر فرنسا حق النقض وتُضعِف قدرتها الأحادية على التدخل)، أو إضفاء طابع أوروبي على ضوابط تصدير الأسلحة (مما يعني أن تخضع النزعة الفرنسية إلى تفعيل اتفاقيات استعمال الأسلحة الثنائية للتدقيق الأوروبي).بعد ولاية رئاسية أولى مليئة بالطموحات الأوروبية المخيّبة للآمال، من المستغرب ألا يتوصل ماكرون حتى الآن إلى نظرية تغييرية تجمع بين الجرأة وحصد الإجماع.هذا الوضع ينذر بتوسّع عزلة فرنسا وقد يجبرها على وضع إخفاقاتها في خانة النجاحات ومتابعة اعتبار الاجتماعات الرفيعة المستوى، مثل اللقاء المرتقب بين رؤساء الدول الأوروبية في أكتوبر المقبل، خطوة فاعلة لإنشاء مجتمع أوروبي سياسي حقيقي، مع أن هذا الاجتماع لا يحمل أي أجندة أو أهداف أو إنجازات واضحة.لا يزال ماكرون الزعيم الأوروبي الذي يحمل أوضح رؤية عن مستقبل أوروبا والإصلاحات التي تحتاج إليها، لكنّ عجزه عن تحقيق وعوده يزيد هشاشة القارة وارتباكها.في ظل غياب أي أجندة حقيقية لتطبيق التكامل السياسي، يتعلق الخطر الحقيقي اليوم باستمرار الحرب على الحدود الأوروبية، والتكاليف الاقتصادية الهائلة للعقوبات، وتداعيات العملية الانتقالية المطلوبة في مجال الطاقة، مما قد يحوّل الظروف الراهنة من فرصة مفيدة إلى سبب لترسيخ مظاهر الانقسام والشلل.لتجنب هذه النتيجة، يجب أن تخرج برلين من حالة الإنكار التي تعيشها، وتنفّذ طموحاتها المرتبطة بمعاهدة الائتلاف عبر إطلاق دعوة قوية لإضفاء طابع أوروبي على سياسة الطاقة، وتوضيح شروطها لبناء هندسة أمنية أوروبية جديدة وتطوير قدراتها.في النهاية، يجب أن تصبح سياسة فرنسا الأوروبية أكثر وضوحاً وصبراً وأقل اهتماماً بالمصالح الشخصية، كذلك، يُفترض أن تتخلى فرنسا عن مواقفها الغامضة حول طبيعة الإصلاحات المؤسسية التي تدعو إليها، حتى لو تطلّب تطبيقها جيلاً كاملاً، ويجب أن تضع حداً للطابع الشخصي والمُضخّم الذي تعطيه للجهود الأوروبية، إذ تكثر الأدلة التي تثبت أن ماكرون وأوروبا يُحققان النجاح حين يُخصص الرئيس الفرنسي الوقت والطاقة اللازمَين لبناء تحالفات واسعة ومتنوعة وعابرة للحدود.* شاهين فالي
دوليات
سياسة ماكرون الأوروبية محكومة بالفشل
09-09-2022