في ظلال الدستور: مبدأ الشورى بين سيادة الشريعة وسيادة الأمة
عطفاً على ما سطرناه في مقال الأحد الماضي من أن سيادة الشريعة التي قال بها الفقيه الكبير د. محمد عمارة في كتابه: «هل الإسلام هو الحل؟» تأسيسا على أن الشارع هو الله، وأن ما يسنه الإنسان هو فقه وتقنين ليصل إلى مبتغاه، وهو ولاية الفقيه التي تفضي الى الحكومة الدينية، وفي ظل مبدأ قال به إن الحاكمية لله، منكرا سيادة الأمة، وهو ما اختلفنا فيه مع الفقيه الكبير الراحل ولخطورة الرأي الذي قال به الدكتور محمد عمارة، وحتى لا يساء تأويله إلى غير ما قصده صاحبه، ليصبح وسيلة من وسائل صراع أيديولوجي بين الدولة وجماعات التطرف التي تكفرها وتكفر كل مسلم لا يؤمن بهذا الفكر، وقد تعاظمت ظاهرة العنف الديني في الآونة الأخيرة، وصاحبها عنف مضاد، فإن مزيدا من التوضيح لرأينا في هذا الفكر ورفضنا له ما قد يقطع الرجعة على هذا التأويل، ويزيل هذه الغشاوة التي ترتكز عليها ظاهرة العنف. 1- الإسلام عقيدة وشريعة:
وهو عنوان لكتاب، ألفه الإمام الأكبر الراحل فضيلة الشيخ محمود شلتوت «رحمة الله عليه»، ويقسم فضيلته الشريعة إلى قسمين: «العبادات والمعاملات، وهذه الأخيرة تشمل ما يتعلق بشؤون الأسرة والميراث، وما يتعلق بالأموال والمبادلات، وما يتعلق بالجماعة وما يتعلق بالعقوبات وعلاقتها بغيرها، فيرى أن الله كلف المسلمين بأن يأخذوا أنفسهم بالشريعة في علاقتهم بالله، وعلاقتهم بالناس، لحفظ مصالحهم، ودفع مضارهم، فيما بينهم وبين أنفسهم، وفيما بينهم وبين الناس، على الوجه الذي يمنع المظالم، وبه يسود الأمن والاطمئنان». (الإسلام عقيدة وشريعة- محمود شلتوت– دار الشروق- ص81، 82).فالأمة كلها مكلفة بالشريعة، بلا وصاية لسلطة دينية عليها، الأمر الذي أقر به الفقيه الراحل د. محمد عمارة في تحقيقه في الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده ج3 ص286، إذ يقول في هذا التحقيق: «إن الأستاذ الإمام لخص رأيه في جملة واحدة هي: ليس في الإسلام سلطة دينية سوى سلطة الموعظة الحسنة والدعوة إلى الخير أو التنفير من الشر، وهي سلطة الله لأدنى المسلمين، ويقرع بها أنف أعلاهم، كما خولها لأعلاهم يتناول بها من أدناهم».ويسجل د. عمارة- في تحقيقه سالف البيان- ما ذكره الإمام محمد عبده، من أن أحد الأصول التي قررها الإسلام هو: قلب السلطة الدينية والإتيان عليها من أساسها، وفي موضع آخر قال الإمام: إن الإسلام هدم تلك السلطة ومحا أثرها، ولم يعد لها عند الجمهور اسم ولا رسم.2- النظام النيابي مستمد من الإسلام: والدكتور عمارة القائل بأن النظام النيابي هو «أقرب نظم الحكم في العالم كله الى الإسلام، لا نعدل به نظاما آخر... ومبادئه متفقة بل مستمدة من نظام الإسلام». (ص75 من مؤلفه هل الإسلام هو الحل). ومع ما هو معروف، من أن النظام النيابي خرج من رحم الأمة التي اختارته، وفقا لإرادتها الحرة، فأصبح المجلس النيابي يمثلها في تسيير شؤون الحكم، فكيف ينكر الفقيه الراحل مبدأ سيادة الأمة، وأنها مصدر السلطات جميعا؟ وهو المبدأ الذي تستمد منه الأمة سلطتها في فرض الشريعة السماوية، وغيرها من شرائع وضعية مفصلة لها أو مكملة لأحكامها، لمواجهة المتغيرات المستجدة، وتستمد منه طاعة الناس لأوامرها ونواهيها في هذه الشرائع، سماوية ووضعية، وهي شرائع لا تطبق على الناس من تلقاء نفسها، لتكون لها السيادة، بل بواسطة سلطة آمرة، هي الأمة، وما النظام النيابي الأقرب إلى الإسلام والمتفق مع أحكامه، بل المستمد من هذه الأحكام على حد تعبير الدكتور عمارة، إلا وكيل عن الأمة التي لها السيادة وحدها. 3- الاجتهاد حق لولي الأمر: فالاجتهاد الإسلامي، الذي اعتبره الفقيه الراحل في مؤلفه، السلطة الرابعة المتميزة، والذي، كما وصفه «يصل أهله إلى مرتبة من العلم تؤهلهم لبناء الفقه وتقنين القانون على أساس من مبادئ الشريعة الإسلامية وحدودها، وهي السلطة التي اعتبرها نائبة عن الأمة في الحفاظ على إسلامية الدستور والقانون».أهل الاجتهاد– كما أسماهم– الذين لم تنتخبهم الأمة للنيابة عنها، والذين أصبحت لهم السيادة على سائر السلطات، بحكم سيادة الشريعة، فإن أولي الأمر الذين انتخبتهم الأمة، أولى بالاجتهاد.وهو ما قضت به المحكمة الدستورية العليا في مصر في قضائها الذي قررت فيه «أنه إذا كان الاجتهاد حقا لأهل الاجتهاد فأولى أن يكون هذا الحق ثابتا لولي الأمر يستعين عليه في كل مسألة بخصوصها وبما يناسبها من أهل النظر في الشؤون العامة، إخمادا للثائرة وبما يرفع التنازع والتناحر ويبطل الخصومة 2/ 1/ 1999 في القضية رقم 102 لسنة-9 ق».وكانت هذه المحكمة قد عرفت مبادئ الشريعة الإسلامية بأنها: «المبادئ القطعية في ثبوتها ودلالتها، باعتبار أن هذه الأحكام وحدها التي يكون الاجتهاد فيها ممتنعا لأنها تأخذ من الشريعة الإسلامية مبادئها الكلية وأصولها الثابتة التي لا تحتمل تأويلا أو تبديلاً، ومن غير المتصور تبعا لذلك أن يتغير مفهومها بتغير الزمان والمكان وهي عصية على التعديل ولا يجوز الخروج عليها أو الالتواء بها عن معناها، وتنصب ولاية المحكمة الدستورية العليا في شأنها على مراقبة التقيد بها وتغليبها على كل قاعدة قانونية تعارضها. أما الأحكام الظنية غير المقطوع بثبوتها أو دلالتها أو هما معا فتنحسر دائرة الاجتهاد فيها، وهي بطبيعتها متطورة، تتغير بتغير الزمان والمكان، لضمان مرونتها وحيويتها، ولمواجهة النوازل على اختلافها، تنظيما لشؤون العباد بما يكفل مصالحها المعتبرة شرعا، بما تقوم عليه المقاصد العامة للشريعة من الحفاظ على الدين والنفس والعقل (الحكم الصادر بجلسة 19/ 12/ 2004– القضية رقم 1129 لسنة 1921 قضائية دستورية).ومن هنا كان مبدأ الشورى، الذي ورد إجمالا في آيتين كريمتين من آيات القرآن الكريم، هو الثابت الإلهي الوحيد الذي لا يحتمل تأويلا أو تبديلا، والذي لا يتغير مفهومه بتغير الزمان والمكان، كما تغير في فقه الفقيه الراحل عندما أنشأ سلطة الاجتهاد، على أنها من لزوم الشورى، أي مفصلة أو مكملة لها، بحكم اللزوم. 4- مقاصد القرآن الكريم:ولعل د.عمارة، وهو المتأثر بفكر المرحوم الإمام حسن البنا الذي نقل عنه الكثير من أفكاره وأقواله وكتاباته، في مؤلفه سالف البيان، قد فاته ما قاله الإمام حسن البنا في كتابه (مقاصد القرآن الكريم ص18-21) في العلوم الكونية، الذي استهل رأيه فيها بأنه «من المقرر أن القرآن الكريم لم ينزل ليكون كتاب هيئة أو طب أو فلك أو زراعة أو صناعة، ولكنه كتاب هداية وإرشاد، وتوجيه اجتماعي إلى أمهات المناهج الاجتماعية».وقال عن جهد المؤلفين في أصول العلوم الكونية قديما وحديثا والذين حاولوا أن يصلوا إلى ذلك بتطبيق آيات القرآن الكريم في الخلق والتكوين، وما إليها على ما عرف الناس من هذه العلوم، بأنه جهد مشكور ولا شك، ولكنه تكليف بما لم يكلفنا االله به، قد يصل في كثير من الأحيان إلى التكلف، وخروج بالقرآن عما نزل له من الهداية والإصلاح الاجتماعي وتقرير قواعدهما في النفوس والمجتمعات، وتعريض لمعاني كتاب الله تعالى لاختلاف الآراء، ولهذا كره السلف هذا المعنى.وينقل عن الشاطبي، ما قرره في الجزء الثاني من الموافقات، وناقشه مناقشة دقيقة، خلص منها إلى «أن القرآن لم يقصد به تقرير شيء من هذه العلوم، وإن كان قد تضمن علوما هي من جنس علوم العرب، أو ما ينبني على معهودها مما يتعجب منه أولو الألباب، ولا تبلغه إدراكات العقول الواضحة، دون الاهتداء بأعلامه، والاستنارة بنوره، أما أن فيه ما ليس من ذلك فلا». ويضيف الإمام البنا أنه «إذا كان القرآن قد تعرض لكثير من مظاهر هذا الوجود الكوني، مما يتناوله علماء الكون بالتمحيص والبيان، فإن القرآن الكريم لم يقصد بهذا التعرض تقرير أصول هذه العلوم أو تناول فروعها، ولكنه إنما قصد إلى الهداية، وتوجيه الأنظار والنفوس إلى ما تدل عليه من عظمة الخالق وفائدة المخلوق». وهو ما ينطبق– في رأينا- على مؤسسات الحكم وآلياته والتي أصبحت من علوم الكون، العلوم السياسية والدستورية، وفقه القضاء الدستوري والقانون العام، والتي لا تقل أهمية عن علوم الطب والفلك وغيرها، وهي متغيرة شأن هذه العلوم لا ثبات لها مع المستجدات. 5- مواجهة المستجدات: وقد فات الفقيه الراحل د.محمد عمارة، المتأثر بفكر فضيلة الإمام الشيخ حسن البنا وجماعته، ما قاله كبيرهم المفكر الإسلامي الراحل سيد قطب وهو أحد أقطاب جماعة الإخوان المسلمين في كتابه «نحو مجتمع إسلامي» ننقله كما سطره في هذا الكتاب بالحرف الواحد: «إن الحياة تندفع دائما إلى الأمام، وتجدد حاجاتها ومطالبها وتتغير علاقات الناس فيها ووسائل العمل وطرق الإنتاج». لأن الفقه الإسلامي كما يقول سيد قطب هو من صنع البشر استمدوه من فهمهم وتفسيرهم وتطبيقهم للشريعة، وفي ظروف خاصة، وتلبية لحاجات خاصة، واستيحاء لأوضاع جيلهم الذي عاشوا فيه، وفهمه للأمور وتقديره للغايات والأهداف، ومصالحه التي تمليها الوقائع والأشياء، وأيا ما كان بصر هؤلاء الرجال الذين وضعوا الفقه الإسلامي، وأيا ما كان إدراكهم لروح هذه الشريعة ومراميها، وأيا ما كانت سعة آفاقهم ودقة تقديراتهم، وهو الواقع فعلاً، فإنه ينبغى أن نضع في الاعتبار دائما أن تشريعاتهم الفقهية كانت تلبية لحاجات زمانهم الواقعية.ويضيف سيد قطب أن هذه النظرية العامة «لا تقتصر على فقهاء الإسلام الذين عرفوا بهذا اللقب، إنما تشمل كذلك صحابة رسول الله بعد موته صلى الله عليه وسلم- فأبو بكر وعمر وعلي وابن عباس وابن عمر وإخوانهم رضي الله عنهم، وإن كانوا أكثر بصراً وبصيرة بشريعة الإسلام من غير شك، وأعمق إدراكا لمبادئها واتجاهاتها بلا جدال، ولكن تطبيقاتهم لهذه الشريعة لا تخرج عن تلك القاعدة، وهي أنها جاءت تلبية مباشرة لحاجات البيئة ومقتضيات العصر، ولا يمكن أبداً أن تصبح جزءا مقدسا من الشريعة– ومصدرها هو القرآن وسنة رسول الله– وما عدا هذين المصدرين فهو فقه إسلامي تختلف درجة حجيته بقياس بعضه الى بعض». وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.