ملكة التغيير والاستقرار
حكاية الملكة إليزابيث الثانية، حكاية تروى. حكمت لسبعين عاماً، حتى تردد بعد رحيلها في بريطانيا أنها «الملكة الوحيدة التي نعرفها»، عاصرت ونستون تشرشل، وتكونت بينهما علاقة قوية، وعينت 15 رئيساً للوزراء، وتكيفت مع أصعب الأحداث، على المستويين، العائلي والمحلي والدولي، كما أنها وعلى الرغم من الصلاحيات الواسعة التي تملكها، تنازلت بالتدريج عن الكثير منها، سواءً بالممارسة أو بالقوانين، كان آخرها قانون تنظيم القضاء سنة 2005. وكان آخر مؤشرات التزامها أنها تحملت معاناة المرض، لتعيين رئيسة وزراء جديدة، ثم غادرت الدنيا بعدها بيومين.عندما توفي والدها الملك جورج السادس فجأة سنة 1952، كانت في إجازة بكينيا. عندما جاءها الخبر، كانت تعتلي شجرة، فقيل حينها «اعتلت الشجرة أميرة، ونزلت منها ملكة».كان عمرها حينها 25 عاماً، في حقبة حرجة جداً، فبريطانيا، خرجت للتو من حرب عالمية طاحنة، ولم يطل الأمر حتى قام رئيس الوزراء أنتوني إيدن بمغامرته الثلاثية في العدوان العسكري على مصر، مما أدى إلى استقالته في 1957.
مع أن النظام السياسي في بريطانيا يطلق عليه «ملكية دستورية»، إلا أنه يختلف عن 12 ملكية دستورية أوروبية، فبريطانيا ليس لها دستور مكتوب، بصلاحيات شبه مطلقة للملكة. إلا أنها استطاعت التكيف مع التغيير، بهدوء، وقدمت تنازلات كبيرة، تؤثر بسلطتها. والتزمت باللقاء الأسبوعي مع رئيس الوزراء، فكانت دائمة التطوير للنظام السياسي دون التأثير على الاستقرار. كانت تتعامل مع رؤساء الوزراء بروية، دون تدخل، إلا ما تراه مضراً للبلد وبالذات في علاقاته الخارجية، فتسعى لترميم الأمور بزيارات للبلاد المعنية، وعادة تثمر زياراتها. فمثلاً كان التباين بينها ومارجريت ثاتشر كبيراً، حين رفضت تأييد الدول الإفريقية بفرض حصار ضد جنوب إفريقيا العنصرية، وانتهى الأمر لمصلحة الملكة، وقامت بعدها بزيارة نيلسون مانديلا بعد أن أصبح رئيساً، أما ثاتشر فقد أطاح بها حزب المحافظين، في صراع داخلي.في حادثة أخرى، وهي استفتاء استقلال اسكتلندا سنة 2014، الذي أجريت دراسة حوله، وحضرته شخصياً. ومع أن المؤشرات كانت ترجح الاستقلال، ومع أنها بذلك كانت ستفقد جزءاً كبيراً من مملكتها، إلا أنها أصرت على عدم التدخل، وأن القرار للشعب، وتحت ضغوط شديدة كان أقصى ما قالته بعض التسريبات توحي برفضها الانفصال، وجاءت النتائج 45% مؤيدة للانفصال، و55% معارضة.خلال 70 سنة، تغيرت بريطانيا كثيراً، فلم تعد الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، وتغير الكثير من مكونات نظامها السياسي، وتغيرت نخبها السياسية، وتركيبتها السكانية، إلا أن الملكة تمكنت بهدوء من التعامل مع الاتجاهات العامة لذلك التغيير، بما في ذلك ما يخص الأسرة المالكة، كان آخرها إعلانها عن تسليم دخل الأسرة للدولة، مقابل منحة تساعدها على القيام بمهامها. وهكذا كسبت الاحترام، وقادت التغييرات الكبرى، كنموذج فريد، وبقيت فوق السياسة، فكسبت الاحترام، داخل البلاد وخارجها.