عبرت الأوساط السياسية والاقتصادية والاجتماعية والرياضية والفنية عن رفضها المطلق والقاطع لما جاء فيما يسمى «وثيقة القيم» التي أطلقتها مجموعة من التيارات الدينية، مؤكدة أن هذه الوثيقة تسعى للوصاية على عقول ومبادئ وقيم أهل الكويت، التي جبلوا عليها من التسامح والتعايش وقبول الآخر دون مساس بالحريات والمعتقدات والأفكار، مشددين على أن القبول بهذه الوثيقة يعني ضياع قيم الدولة المدنية والعودة إلى الرجعية والتخلف وأفغنة الكويت بقيم «تورا بورا».كما وصفوها بوثيقة «العار» التي يجب محاربتها ومواجهة من يدعون إليها لأنها باب خلفي للانتخابات الفرعية والتكسب غير المشروع، كما أنها لم تدعُ إلى محاربة الفساد المستشري في معظم المرافق مما أنهك الدولة، فضلاً عن خلوها من الدعوة إلى مواجهة فساد استغلال الخطاب الديني الرامي إلى تحقيق المكاسب الشخصية على حساب المصلحة العامة، معتبرين أن جميع بنودها تنافي وتجافي أبسط حقوق الإنسان عبر فرض الرأي الآخر عليهم.
وشددوا على ضرورة رفض المواطنين لهذه الوثيقة ومحاسبة كل من يتبناها من المرشحين بعدم التصويت له، ودعم كل الرافضين لها ولمراميها التي جاءت مخالفة لقيم الدستور الكويتي العريقة التي رسخت حرية الكلمة والفكر والمعتقد وساهمت في نهوض الدولة في العقود الماضية.أكد وزير التربية الأسبق د. بدر العيسى أن «هذه الوثيقة هي وثيقة إسفاف وجهالة في قيم ديننا وليست وثيقة مثل، كما يدعي الموقعون عليها»، مضيفا: «نحن كمواطنين لمجتمع مدني كما نص الدستور نتساءل إلى متى ينحر مثل هؤلاء مجتمعنا بسكاكين التطرف؟ والى متى يستمر هؤلاء في التدخل بشؤوننا وحياة ومستقبل أبنائنا والتربص لأفعالنا؟ ومن هؤلاء الذين يحددون لنا معايير دخول الجنة والنار؟».وأردف العيسى: «لماذا يرغبون في أفغنت الكويت؟ والى متى يواصل هؤلاء باسم الدين المسيس هدم القيم الأصيلة للمجتمع الكويتي التي جبل عليها آباؤنا وأجدادنا، والتي بنيت على الدين الإسلامي السمح، وشملت كل مناحي الحياة، كصدق الانتماء وثقافة العمل وتعميق الوحدة الوطنية والتكافل الاخوي واحترام الغير، حتى لو اختلفت مذاهبهم وأنواعهم، ونبذ الأفكار الدخيلة المتطرفة وحماية المنجزات والمكتسبات وتحمل المسؤولية والارتقاء بالعلم والعمل المهني والابتكار العقلي والاهتمام بالثقافة والفنون؟».واستطرد: «لا نريد وثيقة تأتي مخالفة لتوجهات القيادة السياسية التي تحثنا على حسن الاختيار والمبنية على الصدق والأمانة وحسن التشريع والمراقبة وليس من خلال قيم تورا بورا»، لافتا إلى أن «قيمنا هي تلك التي كفلها لنا دستورنا، والتي تضمن حرياتنا وكرامتنا كبشر نتحلى بالايمان بخالقنا، ولن نرضى من كائن من كان أن يقيد هذه الحريات باسم الدين المغلف بالممارسات الداعشية فقط ليكسب صوتا من الذين تنطلي عليهم هذه الأساليب الدخيلة والمرفوضة من كل أطياف المجتمع، هم يرغبون في تفكيك المجتمع من خلال هذه الوثيقة المسخة والتي تعكس واقعهم الشاذ والمنحرف».وطالب جمعيات المجتمع المدني ودواوين الكويت «بالتصدي لأصحاب وثيقة الخزي والإسفاف ومقاطعة كل مرشح وضع توقيعه عليها، والوقوف بجانب كل من رفضها لتصفية مجتمعنا من هذه الشوائب، والنهوض بالكويت من خلال العدل والحرية والمساواة، وعلى مؤيدي هذه الوثيقة أن يختاروا أماكن أخرى لكي يتصومعوا في محاربهم ويمارسون قيمهم بعيدا عنا».
اللباس المحتشم
بدوره، ذكر الكاتب أحمد الصراف: «ظهر مرشحون للانتخابات القادمة وهم في وضع التوقيع على ما يسمى بوثيقة القيم، بما يفيد موافقتهم عليها، وتبنيهم ما ورد فيها، والتي تضمنت مجموعة من الإجراءات التي يطالب من صاغها بضرورة قيام أعضاء مجلس الأمة بتبنيها من خلال قوانين، لتحويل الحياة في الكويت إلى ما يقارب ما هو سائد في أفغانستان، فورقة التعهد تفيد بأنه على المرشح الذي سينجح في الانتخابات الدفع لتطبيق منع الاختلاط في التعليم، ورفض إقامة أي نوع من المهرجانات وحفلات الرقص المختلطة، وإصدار قوانين تغلق بموجبها المسابح والنوادي المختلطة في الفنادق وغيرها، مع تفعيل قانون اللباس المحتشم، وغيرها من هذه الأمور».وأضاف الصراف: «أنا شخصيا على استعداد لتأييد هذه الشروط، بكل ما تمثله من تناقض وسخف، إن كان هناك من يضمن أن تطبيقها سيقلل بالفعل من حجم الفساد في المجتمع، وسيرتقي المواطن بأخلاقه متى ما تم تجريم التعرّض لأي من الصحابة مثلا، أو منعت الفتيات من ارتداء ملابس معينة».وأشار إلى أنه «لم يكن غريبا أبدا خلو الوثيقة الفضيحة، التي قام بتبنيها عدد من المرشحين، تماما من الأمور الأخلاقية الحقيقية والرفيعة، فلم يتعهد من كتبها ولا من وقعها بأن يمتنع هو وأبناؤه، مثلا، وأقرباؤه وشركاؤه، عن استخدام الكرسي النيابي للإثراء من مناقصات الدولة، وكسب العقود لمكتبه الهندسي أو القانوني، ولم تتضمن الوثيقة أي بند يتعلق برغبة من تبنوها في محاربة الفساد على كل الصعد، وهذا دليل على أنهم قد يصبحون يوما جزءا منه».وشدد على أن «الوثيقة خلت تماما من رفض اللجوء للانتخابات القبلية، المجرمة وغير الأخلاقية، علما أن غياب التطرق إلى مثل هذه القضايا الأخلاقية المهمة لم يأت مصادفة، بل لأن البعض لا يرى في اقترافها جريمة، كما أنهم مهيأون لها أصلا، منذ أن فكروا في الوصول إلى قبة البرلمان، كنواب، فهدفهم كان ولا يزال تحقيق مصالحهم الشخصية، ومن بعدها مصالحهم الحزبية»، لافتا إلى أن «إضافة عبارة الصحابة جميعا إلى قانون المسيء، تدل على تفكير قراقوشي، فإقرار مثل هذا القانون سيجعلنا الشعب الوحيد في الكون، وفي تاريخ البشرية، الذي جرم الإساءة لكل أفراد شعب عاش قبل أكثر من 1400، فهل هذا من العقل، أو له علاقة بالأخلاق؟».دولة الدستور
من جانبه، أكد المحامي بسام العسعوسي أن الكويت دولة دستور وقانون، لافتا إلى أن محاولة فرض فئة معيّنة أجندتها على الدولة والمجتمع مرفوضة.وقال العسعوسي لـ «الجريدة» إن الكويت قائمة على التعددية والفكر المنفتح، مؤكدا أن المجتمع الكويتي به كيانات وأفكار وتوجهات مختلفة.وأوضح أن ما يسمّى بـ «وثيقة القيم» يعتبر المدخل الرئيس لتغيير هوية المجتمع، حيث ستكون توطئة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفرض قانون العقوبات الشرعية.وأشار إلى أنه في الوقت الذي تعمل دول مجاورة على الانفتاح ومحاربة الظواهر المتشددة وفك الارتباط مع قوى التشدد، نجد هذه الوثيقة التي تعدّ خروجا عن القيم وثقافة المجتمع الكويتي.وشدد على أن هذه الوثيقة تعدّ وصاية مرفوضة على المجتمع الكويتي، لافتا إلى أنه برمته كان مجتمعا قائما على التوازن، وهو خليط من ثقافات متعددة ومختلفة، ومشددا على عدم السماح لانفراد فئة بخطف المجتمع وفرض أفكاره على الناس، داعيا الحكومة إلى الحفاظ على هذا التوازن والتصدي لدعاة التكفير والوصاية.وطالب العسعوسي بأن تكون هناك «وثيقة» لحل المشكلة الإسكانية، فهناك ما يجاوز 100 ألف طلب سكاني، وحل مشكلة البطالة ومشاكل التوظيف للشباب والتعليم والصحة، والذي يستنزف ميزانية آلاف الأسر الكويتية، إلى جانب تعديل التركيبة السكانية وتنويع مصادر الدخل والقضاء على المخدرات والعديد من القضايا المهمة.مرحلة جديدة
بدوره، أكد رئيس جمعية الخريجين، إبراهيم المليفي، أن هذه الوثيقة وغيرها لن يكون لها أيّ مكان في المرحلة المقبلة، مشيرا إلى أن الكويت بكل ما تحمله من تفاصيل دخلت مرحلة جديدة مليئة بالتفاؤل والأمل، بعد خطاب صاحب السمو الأمير، الذي ألقاه سمو ولي العهد.وقال المليفي لـ «الجريدة» إن الكويت على موعد مع الكثير من الإصلاحات والمشاريع التنموية الضخمة والجهد المضاعف لتلافي السلبيات الماضية، مشددا على أن تصحيح المسار يجب أن يكون قولا وفعلا.وأضاف أن ما يسمى بـ «وثيقة القيم» وغيرها من الوثائق ليس بالأمر الجديد، وسبقه كثير من المحاولات للتوقيع على مثل هذا النوع من الوثائق، وجميعها انتهت إلى المجهول، ولا تمثّل أي التزام حقيقي، ولم تأت من جهة معلومة.وذكر أن المرشحين بصورة عامة يوقّعون على أي وثائق «وصائية» من هذا النوع مثل الموجودة الآن في هذا التوقيت، والتي تكرّس للعمل الفردي في العملية السياسية.وأكد أنه لو أن هناك تنظيمات سياسية في البلاد ما رأينا هذا الاستعرض السياسي، مشيرا إلى أن الكويت تفتقر إلى الحد الأدنى في تنظيم العملية السياسية.وأوضح أن سلّم الأولويات لدى المجاميع السياسية لم يرتقِ إلى الاتفاق على المشاكل الأساسية، لافتا إلى أن هذه الوثيقة هي خطاب فردي، ولا يوجد بها أي أجندة تنطلق منها.وشدد على أن التيار المتشدد يحاول توجيه الرأي العام، مشيرا إلى أن هذه التحركات والمبادرات تأتي في ظل غياب تام للدور الذي يجب أن تمارسه التجمعات الانتخابية.وأكد المليفي أن دور مؤسسات المجتمع المدني حاضر، ودائما ما تقدّم آراءها، ولكن لا يؤخذ بها.لماذا الآن؟
من جهته، أكد الناشط السياسي الأمين العام للحركة التقدمية، د. حمد الأنصاري، أن ما يسمى بـ»وثيقة القيم» لا يمتّ للدستور بأي صلة، لافتا إلى أن هذه الوثيقة وغيرها من الوسائل ليست جديدة.وأوضح أن هذه الدعوات والوثائق تدعو إلى أسلمة القوانين والتوجه من الدولة المدنية إلى الدينية.وتساءل الأنصاري في حديثه لـ «الجريدة» عن أسباب طرح هذه الوثيقة في هذا التوقيت، متسائلا: لماذ تظهر هذا الوثيقة الآن؟ والجواب، باختصار، أنها محاولة لتشتيت المجتمع عن الأولويات خلال المرحلة المقبلة، كما أنها تأتي في سياق الصراع على تعديل قوانين الانتخابات.وأضاف أنه سبق لمجلس الأغلبية الأول في 2012 أن طرح فكرة تغيير المادة الثانية وتعديل المادة 79 من الدستور، لكن تم التصدي لتلك المحاولات.وقال الأنصاري موجها حديثه لمن صاغوا هذه الوثيقة ومن وراءها ويروّجون لها: ما هو موقفكم في الانتخابات السابقة؟وذكر أن الفترة الماضية شهدت ارتفاع النبرة المنادية إلى العمل السياسي الجماعي، لافتا إلى أن الموضوع ليس وثيقة، وإنما أكبر من ذلك بكثير، وهو محاولة لإبعاد المجتمع عن قضاياه الأساسية، مثل الإسكان والتعليم والصحة، وغير ذلك من القضايا المهمة.وقال الأنصاري: لمصلحة من يتراجع الخطاب نحو المكتسبات الدستورية إلى خطاب الصراع على مدنية الدولة؟وشدد الأمين العام للحركة التقدمية على أن هذه الوثيقة غير دستورية ومرفوضة وغير جادة، مشيرا إلى أنه حتى لو جاءت أغلبية برلمانية لتعديل مواد الدستور، فسيتم التصدي لها ورفضها.وأضاف أن هذه الوثيقة ما هي إلا نوع من الدعاية الإعلامية لكسب بعض الأصوات المتشددة، لافتا إلى أن الهدف الأكبر من وراء هذه الوثيقة هو تشتيت الناس عن الخطاب السياسي، وتوجيههم نحو صراعات ثانوية جانبية.وشدد الأنصاري على أن المرحلة المقبلة تتجه صوب مواجهة الفساد وحلّ القضايا العالقة، والتي مر عليها عشرات السنوات، ولم نرَ لها حلولا جذرية، مثل التعليم والإسكان والصحة وحقوق البدون، وغير ذلك من الأمور المهمة.شراء الأصوات
في السياق، اعتبر الوزير وعضو مجلس الأمة السابق علي البغلي «وثيقة القيم» بابا خلفيا ينافس الانتخابات الفرعية وشراء الأصوات المجرّم قانوناً، مؤكداً أنها «ولدت ميّتة» ومرفوضة جملة وتفصيلاً لتعارضها الصارخ مع مواد الدستور والقانون، لاسيما الخاصة بالمساس بالحريات.وقال البغلي لـ «الجريدة» إن «دهاقنة التزمّت والغلو من الأصوليين والباحثين عن الشُهرة في ظلال الدين وهو منهم براء، يحاولون بكل قواهم إلباس الكويت، التي للاسف تخّلت عن المقدمة وباتت في مؤخرة ركب دول الخليج، ثوب طالبان وداعش ومن على شاكلتم من الجماعات المتطرفة الرافضة لكل ما هو جميل، وترغب في اختطاف حريات الاخرين عبر محاولات تمرير مثل هذه الوثيقة التي ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب».وأهاب البغلي بالحكومة الجديدة إثبات حُسن نواياها التي صدّرتها للمواطنين خلال الفترة الماضية وإعلان رفضها القاطع والبات لمثل هذه الأمور المناهضة للدستور، مؤكداً أنه «من المؤسف على الحكومة التي ادّعت الشجاعة والخروج عن نهج سابقتها غير المقبول الموافقة على تمرير وعدم التصدي لمثل هذه الأمور».ورأى أن تبني بعض الشيوخ لما حوته «الوثيقة» وإعلانهم قبول بنودها، بل مباركتهم وتأييدهم للمرشحين الذين يقومون بالتوقيع عليها دون سواهم بمنزلة «استعراض عضلات» ومحاولة بائسة لاختطاف المشهد، وإعلان تواجدهم عبر اقحام الدين في السياسة.وتابع: كنّا نود أن تخرج هذه الوثيقة متضمنة بنوداً توجّه لتقويم أداء النواب داخل البرلمان، لاسيما في ظل ما شهدناه خلال الفترة الماضية وما سبقها من تصرفات أقل ما توصف بأنها «صبيانية» من قبل بعض الأعضاء، بعيدة تماماً عن القيم الانسانية، وتكّفر الناس بالديمقراطية وتضيّع هيبة المجلس، غير أنه بدلاً من هذا جاءت الوثيقة ببنود مقيدة للحريات، بعيدة تماماً عن شجون وآمال وطموحات المواطنين.