سنة الرحمة... والسخونة!
لا نعرف فضل علماء الطب الذين طوروا الأمصال المضادة للأمراض إلا بعد معايشة القلق الذي جربناه مع كورونا قبل عامين ولا نزال في بعض البلدان.ومن الأوبئة البالغة الخطورة التي صارت تطل بفيروساتها على العالم الجدري، الذي أتانا هذه المرة باسم «جدري القرود» ولا عجب، فهناك جدري البقر، وجدري الدجاج، فجدري البقر هو الذي فتح الباب للطبيب الإنكليزي «إدوارد جينر» لتطوير المصل المضاد لجدري البشر كما هو معروف، وهناك كذلك جدري الخيل والأغنام والخنازير.والجدري لا يشوه الجلد والبشرة فحسب في الإنسان المصاب، بل قد يعمي بصره بشكل كامل، حيث كانت مدن الشرق العربي والإسلامي تعج بعميان الجدري والمشوهين بسببه قبل القرن العشرين وحتى منتصفه.
ومن أفظع ما قرأت في وصف خطوات تطور إصابة الإنسان بالجدري ما ورد في «الموسوعة العربية الميسرة» التي تقول عن المرض إنه «من أشد الأمراض قسوة على الإنسان، ومن أسهلها انتشاراً، يتسبب عن عدوى بفيروس خاص، وتظهر أعراضه بعد التعرض للعدوى بنحو 12 يوماً، وتبدأ برعشة وارتفاع فجائي في درجة الحرارة مع ألم شديد في القطن». (القَطْن بالفتح: أسفل الظهر)وتبدأ هدنة المرض المؤقتة حيث، تضيف الموسوعة «وتستمر هذه الحال حتى اليوم الرابع من بدء المرض حيث تهبط الحرارة فجأة، ويشعر المريض بالراحة لزوال آلام القطن، وبزوال الحمى والآلام يظهر الطفح المميز للمرض على الوجه في شكل درنات صغيرة تسمى حليمات، ثم ينتشر من أعلى إلى أسفل حتى يغطى الساقين في مدى 24 ساعة».تتجلى قسوة الجدري في هجماته الأخيرة على المبتلى به! تقول الموسوعة: «ثم تبدأ تغيرات في وحدات الطفح فتتحول من حليمات إلى أكياس صغيرة بداخلها سائل رائق وتسمى حينئذ حويصلات ثم ينعكر السائل في الحويصلات، وحينئذ تسمى البثرات التي تجف ثم تتقشر، وبعد التقشر يترك الطفح آثاره في الجلد على شكل ندب (حفر) صغيرة تبقى مشوهة لصاحبها طوال حياته، وقد يظهر الطفح كذلك على الأغشية المخاطية المبطنة للحنك وللزور وعلى ملتحمة العين فيفقدها البصر».فتصور حال الزوج وقد تشوهت زوجته أو بعض بناته، أو فقد بعض الأولاد والإخوة أبصارهم، وهو بلا حول ولا قوة ولا تطعيم.عرفت دول المشرق بعض أشكال التطعيم ضد الجدري، وفي الكويت نقل التطعيم إلينا الطبيب «الشيخ مساعد بن عبدالله العازمي المالكي»، الذي تعتبره المراجع التاريخية «أول من تعاطى مهنة التلقيح ضد الجدري في الكويت». (من هنا بدأت الكويت، ص96). العديد من المقالات التي نشرت في صحفنا عن الأوبئة يمكن أن تشكل مع المعلومات المتفرقة في الكتب مادة قيمة لكتاب عن «التاريخ الوبائي» للكويت! من هذه المقالات القيمة ما يكتبه وينشره الباحث «باسم اللوغاني» في «الجريدة» كحديثة قبل أشهر عن «سنة الرحمة» التي وقعت عام 1918. وقد جاء في مقال اللوغاني «أن الكويتيين أطلقوا اسم «سنة الرحمة» على تلك السنة بسبب كثرة الترحم على الميتين بسبب وباء الملاريا الذي عم الكويت وما حولها من مناطق، كما أطلق على السنة نفسها اسم سنة «السخونة» أو «الصخونة»، ويضيف «ويبدو لي أن الكويت بدأت نظام الحجر الصحي الرسمي لأول مرة في تاريخها عام 1922 أو قبل ذلك بقليل، وكان المسؤول عن تطبيق هذا النظام هو طبيب الوكالة السياسية البريطانية في الكويت، أما مسألة التطعيم فقد رفضها معظم الكويتيين الذين انتشرت بينهم إشاعة أن التطعيم يسبب العقم، ولكن إصرار الأطباء والحكومة فرض على معظم الناس أن يخضعوا للتطعيم». (17/ 6/ 2022).ومما يحتاج إلى بحث وتجميع معلومات، الإشاعات التي كان يطلقها البعض حتى سنوات متأخرة في خمسينيات القرن الماضي كلما حاولت المدارس تطعيم الطلبة.كان تشويه النساء فيما يبدو من أسباب بحث تجار العبيد والجواري في تركيا والدولة العثمانية وغيرها عن التطعيم وبخاصة مع الفتيات الجورجيات المشهورات بالجمال.يقول أحد أوائل الأطباء المصريين الذين درسوا البيطرة في أوروبا في كتاب مطبوع في القاهرة عام 1885، وأوائل الكتب الطبية التي يستعين مؤلفها بالمجهر، ويقول عن اكتشاف التطعيم أو التلقيح «استعمله تجار الجواري البيض خصوصاً للجنس الجورجي لأجل منع التشوهات التي تحدث في جمالهن، ثم استعملت مادة التلقيح باسلامبول سنة 1670 وفي لندره- لندن- استعملوا التلقيح سنة 1730». (كتاب الصفوة الطبية والسياسة الصحية في الأمراض المعدية والوبائية والفوائد العلاجية الضرورية لحفظ الصحة البشرية والحيوانية، للدكتور محمد صفوت مفتش الطب البيطري بمصر المحروسة، ص154).ولما كان كتاب «الصفوة الطبية» عن مخاطر الأمراض المعدية بين الحيوانات نجد د. صفوت يتحدث مطولاً وأساساً عن انتشار الأوبئة والأمراض المعدية بين المواشي والأغنام والخيل والكلاب والماعز. لا شيء ربما يجعلك تشعر بالغبطة في مطالعة كتب الطب القديمة، واليقين أن البشرية قد تجاوزت تلك المراحل القاتمة.