تشيلي تعارض اندلاع الثورة
في الثلاثين عاما التي تلت سقوط بينوشيه، انتقلت تشيلي من مركز الدخل المنخفض إلى المتوسط، فتنميتها الاقتصادية ظهرت أبطأ مما كان متوقعا، ولا يزال هناك الكثير من العمل الذي يتعين القيام به.
كان الرفض الشعبي لدستور تشيلي الجديد المُقترح أمراً متوقعاً، لكن حجم هذا الرفض لم يكن كذلك، ففي هذا الشهر، رفض نحو 62 في المئة من بين 13 مليون ناخب الذين شاركوا في التصويت الدستور الجديد، والذي كان سيحل محل الدستور المكتوب خلال الدكتاتورية العسكرية لأوغوستو بينوشيه.كان الرفض الساحق للدستور الجديد بمنزلة ضربة للرئيس غابرييل بوريك الذي أيد تبنيه، وعلاوة على ذلك، أظهر هذا التوجه بوضوح أن المؤتمر الدستوري الذي صاغه تجاوز تطلعات وقناعات الناخبين التشيليين.دافع بوريك، وهو مُشرع يساري سابق تم انتخابه العام الماضي، عن مشروع الدستور الذي أعدّته هيئة تضم في معظمها حلفائه ورفاقه، وعلى هذا النحو، فإنه مسؤول جزئيا عن فشله، وفي حين أنه أعلن بالفعل تعديلا وزاريا عقب خسارة الاستفتاء، فإنه سيضطر الآن إلى اتخاذ قرارات أكثر صرامة: ما السياسات التي يجب اتباعها ومن المستشارون الذين يتعين التمسك بهم، وكيفية الوفاء بالوعود الإصلاحية التي قطعها خلال حملته الانتخابية.
من الصعب تحديد السبب وراء رفض الناخبين التشيليين للدستور المقترح، ولكن ليس هناك شك في أن الأخبار الزائفة والمعلومات المضللة أدت دورا في ذلك، فلم يكن من الصعب إقناع الناخبين الذين لم يقرؤوا مسودة الدستور البالغ عددها 170 صفحة و388 مادة بأنه سيتم حرمانهم من منازلهم، وأنهم سيفقدون مزايا الرعاية الصحية الخاصة بهم ومعاشاتهم التقاعدية، وأن الإجهاض سيُصبح قانونيا خلال الشهر التاسع من الحمل، وأن تشيلي على وشك أن تتحول إلى فنزويلا جديدة.ومع ذلك، خيبت الإصلاحات السياسية والقضائية الواسعة النطاق للدستور المقترح آمال العديد من الناخبين الذين كان من الممكن لولا ذلك أن يؤيدوا العديد من الحقوق الاجتماعية والاقتصادية التي كان من المفترض أن يعتمدها هذا الدستور، وقد صنفت مسودة الدستور تشيلي بأنها «دولة متعددة القوميات» ومنحت السكان الأصليين الحقوق والحماية التي لطالما حُرموا منها، لكنها سعت أيضا إلى إلغاء مجلس الشيوخ وأثارت تساؤلات حول الجهاز القضائي المُستقل والمُحترم في البلاد من خلال السعي إلى إنشاء نظام منفصل لمحاكم السكان الأصليين، كما تضمنت تدابير حماية بيئية بعيدة المدى التي، رغم أنها تحظى بشعبية لدى النشطاء، فإنها أفزعت كثيرين غيرهم.كان من الممكن أن يضمن مشروع الدستور المقترح أكثر من 100 حق جديد، أكثر من أي دستور آخر في العالم، فقد سعى إلى جعل الرعاية الصحية الشاملة حقا، وإقرار التكافؤ بين الجنسين في السلطتين التنفيذية والتشريعية، وتعزيز النقابات العمالية، وتشديد لوائح التعدين، ويعتقد بعض خبراء الاقتصاد، بمن فيهم وزراء المالية في حكومات يسار الوسط السابقة، أن كل هذا سيكلف الكثير، لكن الاقتراح كان من الممكن أن يُناشد مجموعة متنوعة من الدوائر الانتخابية ويُسهل الفوز بدعم أكثر من نصف الناخبين، وبدلاً من ذلك، أدى ذلك إلى نفور الناخبين الذين خلصوا إلى أنه سيدفع تشيلي بعيدا باتجاه اليسار.لم يكن من المفترض أن تسير الأمور على هذا النحو، فعندما اندلعت الاحتجاجات الجماهيرية ضد الحكومة اليمينية السابقة في أكتوبر عام 2019، تبنى المتظاهرون شعار (لا يتعلق الأمر بـ 30 بيزو، بل يتعلق بـ 30 عاما)، وهي رسالة واضحة مفادها أن الشباب كانوا غاضبين بشأن قضايا أهم من زيادة تعريفة المترو الضئيلة التي حفزت الحركة، فلم يتأثر شباب تشيلي بالنمو الاقتصادي وتراجع الفقر في العقود الثلاثة التي تلت نهاية دكتاتورية بينوشيه، وبدلاً من ذلك، عبر الشباب عن استيائهم إزاء ارتفاع ديون الطلاب، وزيادة تكاليف الرعاية الصحية الخاصة وخطط المعاشات التقاعدية، والتفاوت الشديد، والشعور العميق والغامض بالاستبعاد. لفترة من الوقت، بدا اليسار التقدمي في البلاد مزدهرا، ففي شهر أكتوبر عام 2020، صوّت ما يقرب من 80 في المئة من التشيليين لوضع دستور جديد، وفي وقت لاحق، تم انتخاب الأكاديمية إليسا لونكون أنتيلو- وهي امرأة من سكان مابوتشي الأصليين- رئيسة المؤتمر الدستوري المُنشأ حديثا، وفي ديسمبر عام 2021، هزم بوريك- الاشتراكي والناشط الطلابي السابق البالغ من العمر 35 عاما- المرشح الرئاسي اليميني المتطرف خوسيه أنطونيو كاست، بفارق كبير.ومع ذلك، كانت الأشهر الأولى لبوريك في السلطة صعبة للغاية، وذلك نظرا إلى الأضرار الاقتصادية التي لحقت بتشيلي أثناء الجائحة، حيث تباطأ نمو الناتج المحلي الإجمالي، واتسع عجز الميزانية، وارتفعت معدلات التضخم، وزادت جرائم العنف (وإن كانت من مستوى منخفض)، وعمل تحالف بوريك جاهدا لإبقاء أعضائه الأكثر تطرفا في السلطة، وعلى الرغم من توليه منصبه في ظل بلوغ الدستور الجديد نهايته، فقد قام الناخبون بربط بوريك بمشروع القانون المقترح، الأمر الذي لم يساعد في تراجع أعداد الناخبين الذين صوتوا لمصلحته.وفي ظل الوضع الراهن، لا ينبغي أن تكون نتائج استفتاء هذا الشهر مفاجأة، فالتشيليون أكثر تحفظاً مما قد توحي به الأحداث التي سبقت التصويت، وهم قلقون عموما من محاولات الانفصال عما يعتبره الكثيرون فترة طويلة من الازدهار.في الثلاثين عاما التي تلت سقوط بينوشيه، انتقلت تشيلي من مركز الدخل المنخفض إلى المتوسط، فتنميتها الاقتصادية ظهرت أبطأ مما كان متوقعا، ولا يزال هناك الكثير من العمل الذي يتعين القيام به، ومع ذلك أشار ما يقرب من ثلثي التشيليين إلى أنهم لا يريدون المخاطرة بهذا الوعد، ربما لا يزالون يريدون دستورا جديدا، لكنهم يريدون ديموقراطية اجتماعية، وربما حتى ديموقراطية اجتماعية مسيحية، وإن ما يرفضونه بالتأكيد، كما أظهروا هذا الشهر، هو اندلاع ثورة.* خورخي كاستانيدا وزير خارجية المكسيك الأسبق، وأستاذ في جامعة نيويورك ومؤلف كتاب «أميركا من خلال عيون أجنبية».
Project Syndicate
من الصعب تحديد السبب وراء رفض الناخبين التشيليين للدستور المقترح ولا شك أن الأخبار الزائفة والمعلومات المضللة أدت دوراً في ذلك