نظرة خاطفة إلى خريطة الأحداث التي تتصدّر نشرات الأخبار في العالم كفيلة أن تصيب المرء بالذهول كي لا نقول بالقلق أو الهلع! فعلى الصعيدين الأمني والعسكري، تنتقل كرة النار من الحرب الروسية-الأوكرانية الى النزاع المتجدد حول إقليم «قره باغ» بين أذربيجان وأرمينيا، ومن ثم تحط رحالها بين قرغيزستان وطاجيكستان، دون أن ننسى توترات منطقتنا العربية الممتدة من ليبيا غرباً الى اليمن جنوباً مروراً بسورية ولبنان وفلسطين والعراق، ناهيك عن سلسلة الحروب الأهلية والمناوشات المسلحة وأعمال العنف المتكررة في عدد من الدول الإفريقية والآسيوية، وذلك اضافة الى الملف «التايواني» الذي أججته زيارة رئيسة مجلس الشيوخ الأميركي الى الجزيرة بتحد واضح للتنين الصيني! ولا يفوتنا أن نذكر تذبذب منسوب التفاؤل بنجاح المفاوضات الجارية على الملف النووي الإيراني، إضافة الى الخشية المتزايدة من استخدام روسيا ترسانتها النووية للتغطية على تراجعها الواضح أمام الإصرار الغربي على لجم جماح الرئيس «بوتين».وعلى الصعيد الاقتصادي، تعاني معظم شعوب الأرض تداعيات خطيرة للركود الاقتصادي وتباطؤا في النمو مقترنا بتضخم عالمي وأزمات في الطاقة، إضافة إلى الزعزعة الملحوظة في الأمن الغذائي، وتقلبات أسعار العملات والمعادن وغلاء السلع والمواد الأولية، وعدم استقرار سلاسل التوريد نتيجة صراعات السيطرة على الممرات المائية والبرية الحيوية، ناهيك عن توزع الاقتصاد العالمي بين كتل جيو-سياسية تختلف في معاييرها التجارية والتكنولوجية وفي أساليب تحريك عجلتها وحجم الفائض النقدي لديها وسياسات استخدام احتياطياتها.
وعلى صعد مختلفة، يعيش سكان الكرة الأرضية في مهب تداعيات الجوائح المتنوعة والتغير المناخي والكوارث الطبيعية والجفاف المتزايد والفيضانات المروعة والمجاعات المتوقعة، ناهيك عن انتشار مظاهر الإرهاب والفساد والجرائم المالية العابرة للحدود في المجتمعات البائسة، مما أدخل على أدبيات الخطاب السياسي في كل الدول- الغنية كما الفقيرة- أولويات حساسة ومهمة تتعلق بتحديات النمو المستدام، وصعوبات التعافي، والتصدي للبطالة، ووضع الحلول لأزمات النفط والغاز، وضرورة الإسراع في تعزيز الحوكمة الإدارية والاقتصادية. هذا الكم الملحوظ من التوترات السياسية والاقتصادية والعسكرية يذكّر– للأسف- بالأزمات الكبرى التي سبقت ورافقت ومن ثم تلت الحربين العالميتين الأولى والثانية، ويطرح على بساط التفكير مصير العالم في السنوات القليلة المقبلة تحت وطأة شعار «الاقتصاد مقابل الأمن»!فهل سيقتصر الأمر على صراعات وجودية محلية وإقليمية تحت عنوان البقاء للأقوى؟ أم أن صنّاع السلاح وتجّار البشر والقابضين على مقود الاقتصادات الكبرى سيتجهون بالعالم الى حرب عالمية ثالثة قد يكون قسم منها محجوزاً لاستخدام وتجربة أعتى الأسلحة الفتاكة في حين يترك الباقي لحروب اقتصادية جائرة ومخطط لها تترافق مع إطلاق العنان «لهجمات سيبرانية» واسعة النطاق، حيث لا يستبعد أن نستفيق كل يوم على خبر مفاده نجاح «الجيوش الإلكترونية» في دولة ما باختراق مركز التحكم والقيادة لجيش عدو، والتمكن من تعطيل أجهزة الرادار في مطاراته المدنية أو العسكرية، وكذلك تعطيل الأجهزة الحيوية في المنشآت النووية، أو شلّ شبكات الاتصالات والكهرباء والطاقة، أو عزل دولة أو مجتمع عن شبكة المعلومات الدولية «إنترنت» وبالتالي عن العالم!تداعيات هذا الواقع كثيرة وخطيرة، وسينتج عنه حتماً تصاعد النزعة القومية وارتفاع حدة الخطاب العنصري، الأمر الذي يترافق مع تهالك متسارع لمنظومة الخدمات والبنية التحتية في معظم الدول الفقيرة والنامية، حيث لم يعد بمستطاع المواطنين الجائعين، والقلقين، وغير الآمنين في منازلهم وطرقاتهم وأعمالهم أن يحظوا برعاية صحية لائقة ولا بتعليم مناسب ولا بخدمات حكومية اعتيادية، كما لم يعد بمقدورهم أن يستخدموا شبكة طرق سليمة ولا أن يستفيدوا من شبكة اتصالات فاعلة، مما قد يفقد معظم البشر أبسط مقومات الحياة ومقتضيات الكرامة الإنسانية!الأدهى من ذلك اقتصار الحديث في أروقة الهيئات الدولية والمؤسسات الإنسانية والدول المانحة على «المساعدات الإنسانية» مستبعدين أي إمكانية للمساعدات الاقتصادية أو التنموية، فكل الدول والمؤسسات صارت منشغلة بتأمين الحد الأدنى من الموارد التي تضمن لها البقاء والاستمرار، إذ لم يعد باستطاعة أي منها أن يقف الى جانب الدول المنهكة والشعوب الفقيرة إلا بقليل من الدعم والمساعدة مما تفرضه التزامات الصداقة والإنسانية والمصالح المشتركة. رغم كل الضبابية- وربما السوداوية- التي تحيط بالمشهد، علّمنا التاريخ كما يقيننا الإيماني أن الأيام دول بين الناس، وأنه مهما طال أمد الأزمات واتسع أفقها فلا بد أن يأتي من يحسن التعامل معها لينتقل بالمأزومين من البلاء الى الرخاء.إن الترقب لما يدور حولنا والتنبه لما هو آت أصبح أكثر من واجب ليتحول الى اتجاه إجباري سمته العمل من أجل البقاء والصراع لاستمرار الرخاء، وذلك لن يأتي إلا بتقوية أسس الاستقرار الداخلي والسلام الخارجي المترافقين مع تعزيز ركائز الاقتصاد المتين والحوكمة الرشيدة، وبالاعتماد على المقدرات الذاتية بأكبر قدر ممكن.ونستذكر في السياق مقولة وزير الخزانة الأميركي «هنري مورغنثاو» التي تلخص المشهد وتبرز الواجب على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي، حيث أكد في مؤتمر «بريتون وودز» الذي عقد عام 1944 للنظر في كيفية إخراج العالم الغربي من تداعيات الحرب العالمية الدائرة أن «الرخاء، كالسلام، لا يقبل القسمة».* كاتب ومستشار قانوني.
مقالات
الرخاء كالسلام لا يقبل القسمة
20-09-2022