أصبح «كوفيد 19» فيروساً هارباً وقادراً على طرح مخاطر متزايدة. أدت هذه الجائحة حتى اليوم إلى وفاة حوالى 17 مليون شخص، ومن المتوقع أن تُسبب خسائر بقيمة 12.5 تريليون دولار على الأقل في الإنتاج العالمي بحلول عام 2024. حتى أنها زادت الانقسامات الاجتماعية ومظاهر اللامساواة سوءاً، وأضعفت الثقة بين المؤسسات حول العالم، وأنهكت العاملين في قطاع الرعاية الصحية، وعكست سنواتٍ من التقدم نحو تحقيق أهداف التنمية المستدامة التي وضعتها الأمم المتحدة.بعبارة أخرى، استنتج العالم بأسوأ الطرق أننا لسنا مستعدين للسيطرة على تهديدات الأمراض الجديدة. قد يتكرر هذا الوضع مجدداً إذا لم يحصل تغيير جذري، حتى أن التجارب المقبلة قد تزداد سوءاً.
قد تكون التهديدات الوبائية حتمية، لكنّ انتشار الأوبئة والجوائح اختياري. أصبح قادة العالم اليوم أمام خيارَين: الاستعداد للجائحة المقبلة، أو المجازفة بتكرار الكارثة التي شهدها العالم في آخر سنتين ونصف السنة.نحن نتشارك في ترؤس «الهيئة المستقلة للتأهب والاستجابة للأوبئة» التي أنشأها مدير عام منظمة الصحة العالمية رداً على أزمة كورونا، وقد أمضينا أشهراً عدة ونحن ندرس كيفية تجنب جائحة أخرى من هذا النوع، وما زلنا نتابع التقدم الحاصل في هذا المجال بحذر. يجب أن يطلق المجتمع الدولي خمسة خطوط عمل متداخلة لمنع التهديدات الوبائية المقبلة من تدمير عالمنا مجدداً.أولاً، يجب أن تحاول الدول منع انتشار الأمراض المعدية الجديدة خارج حدودها. لا يمكن التفاوض مع الفيروسات غير المرئية، أو حرمانها من التأشيرة، أو منعها من الدخول، أو اعتقالها، أو احتجازها. لكن تستطيع أنظمة المراقبة المعاصرة، عند استعمالها بطريقة سريعة وشفافة، أن تسهم في رصدها وكبح مسارها. لم يكن أحدث تقرير عن وجود فيروس شلل الأطفال في مياه الصرف الصحي في ولاية نيويورك خبراً إيجابياً بأي شكل، لكن يبقى كشف الحقائق والتحرك لمعالجة المشكلة أفضل من السماح بتفاقم المرض والمجازفة بتفشي العدوى.إذا تسنى لأي مرض جديد (أو حتى مرض معروف مثل جدري القرود) أن يتفشى، قد تُكلّف الأزمة الصحية مليارات الدولار في أفضل الأحوال، أو تريليونات الدولارات وملايين الخسائر البشرية في أسوئها، وقد يتلاشى أيضاً التقدّم المُحقق على مر عقود طويلة. كذلك، قد تتأجج التهديدات الوبائية في أي مكان، ويُفترض أن يحصد البلد الذي يرصد المرض ويُبلِغ عنه الإشادة بدل معاقبته، كما حصل عند فرض حظر غير مبرر للسفر إلى جنوب إفريقيا والدول المجاورة بعدما أبلغت هذه البلدان عن ظهور متحور «أوميكرون» الجديد في السنة الماضية.يجب أن تحذّر منظمة الصحة العالمية المجتمع الدولي من التهديدات الصحية العالمية المقلقة بوتيرة سريعة وقوية. كانت المنظمة محقة حين اعتبرت جدري القرود حالة طوارئ صحية عالمية. ويجب أن تقبل البلدان عروضها لتسهيل التحقيق بتفشي أي مرض جديد، وبغض النظر عن مستوى دخل البلد أو مكانته في العالم.ثانياً، يجب أن تزداد قوة منظمة الصحة العالمية كي تتمكن من أداء دورها كسلطة توجيهية وتنسيقية في شؤون الصحة العالمية. تتابع هذه المنظمة المطالبة بتمويل أكثر استدامة. كذلك، يُفترض أن تطبّق الدول الأعضاء توصياتها وتتعاون لتنسيق الجهود الرامية إلى كبح التهديدات الصحية بدل التحرك لتحقيق مصالحها الوطنية بكل بساطة.طرحت «الهيئة المستقلة للتأهب والاستجابة للأوبئة» توصيات لزيادة قدرات منظمة الصحة العالمية واستقلاليتها، منها حصر ولاية كبار المسؤولين، بما في ذلك المدير العام، بسبع سنوات كي لا يدين بالفضل لبلدٍ معيّن خلال حملته للفوز بولاية ثانية، ومنع البلدان من فرض موظفين على المنظمة، وزيادة التركيز على جودة الدعم التقني في مختلف المكاتب المحلية.حتى الآن، يتباطأ أعضاء منظمة الصحة العالمية في إحداث التعديلات اللازمة. لقد وافقوا على إصلاح تمويل المنظمة لدعم نزاهتها وفاعليتها من خلال تقديم %50 من تمويلها الأساسي عبر مستحقات غير مخصصة. لكن يتعارض هذا النهج مع النموذج الراهن، مما يعني أن يُوجّه التمويل الطوعي من الجهات المانحة أكثر من %80 من التمويل الأساسي، ولا تستطيع منظمة الصحة العالمية أن تسيطر على هذه العمليات بشكل عام.هذا الوضع يجب أن يتغير. تحتاج منظمة الصحة العالمية إلى صلاحيات إضافية. هي تتكل حتى الآن على اللوائح الصحية الدولية الراهنة التي تشمل قواعد تسمح للبلدان بالإبلاغ عن تفشي الأمراض والخطوات التي تستطيع المنظمة اتخاذها للتعامل مع الوضع. أعاقت هذه اللوائح سرعة الاستجابة العالمية لأزمة كورونا، ولا تزال الجهود مستمرة لتعديلها عبر طرح جداول زمنية أكثر دقة للإبلاغ عن الحالات، وتوضيح مسؤوليات الدول للرد على استفسارات منظمة الصحة العالمية خلال مدة قصيرة، ومنح المنظمة صلاحية التحرك للتعامل مع أي وباء من دون أخذ إذن الدول بالضرورة.قد تسمح «معاهدة الجوائح» التي أصبحت قيد الدرس راهناً، انطلاقاً من بنود دستور منظمة الصحة العالمية، بتحقيق جزءٍ من المتطلبات لكبح التهديدات الوبائية والتعامل معها، بما في ذلك إبرام اتفاقيات واضحة حول تقاسم المعطيات العلمية والتكنولوجيا والمهارات المتعلقة بالأدوات الوبائية كي تستفيد جميع البلدان بالتساوي. من دون هذه الاتفاقيات، أوضحت أزمة كورونا أن قوى السوق الطاغية تسمح لأغنى الدول بشراء الإمدادات الإنقاذية مثل أجهزة التنفس، والأقنعة الواقية، واللقاحات، بأعلى الأسعار وقبل الآخرين، ما يُجبِر البلدان الأكثر فقراً على الانتظار في آخر الصف.لكن لا تعطي معظم المعاهدات العالمية أي نتائج إذا لم تشمل الآليات المناسبة لإنفاذها. تحمل الحوافز الإيجابية أهمية كبرى في هذا المجال، منها مكافأة الدول التي تُبلِغ عن تفشي الأمراض عبر منحها مساعدات مالية وتقنية فورية. وتبرز الحاجة أيضاً إلى فرض العقوبات حين تفشل الدول في التحرك خدمةً للمصلحة العامة، كأن يمتنع البلد عن الإبلاغ عن تهديد صحي وبائي محتمل فور رصده. قدّمت البلدان مساهماتها لتحديد الخطوط العريضة للمعاهدة، لكن لم يتّضح بعد القسم المرتبط بطريقة تطبيقها، ومن المنتظر أن تخضع المسودة الأولى للنقاش في شهر ديسمبر المقبل.ثالثاً، يتعلق عامل أساسي آخر بالجاهزية المالية، إذ تشير تقديرات البنك الدولي ومنظمة الصحة العالمية إلى حاجة العالم لتأمين 30 مليار دولار سنوياً كي تتمكن جميع البلدان من رصد تفشي الأمراض والتعامل معها بالشكل المناسب. ومن المتوقع أن يُشتق ثلثا تلك المبالغ تقريباً من الميزانيات الوطنية، ويجب أن يؤمّن المعنيون أكثر من 10 مليارات دولار أخرى أيضاً.قد يكون الصندوق الوبائي الجديد، الذي صادق عليه البنك الدولي في شهر يونيو الماضي، محاولة لمعالجة هذا النقص في التمويل. كان إنشاء ذلك الصندوق جزءاً من توصيات «الهيئة المستقلة للتأهب والاستجابة للأوبئة»، وقد يصبح أداة أولية في الحوكمة المعاصرة، فيطرح مثلاً طرقاً جديدة لجمع الأموال وتوزيعها ودفع تكاليف الأمن الصحي العالمي الذي يشكّل جزءاً من المصلحة الدولية المشتركة.لقد أيّدنا إنشاء نموذج الاستثمار العام العالمي، إذ تقدّم جميع البلدان مساهماتها في الصندوق وتتلقى منه ما تحتاج إليه بناءً على ناتجها المحلي الإجمالي، ومستوى جاهزيتها، والمالية العامة فيها. ومن الإيجابي أن تتوسع لائحة البلدان المساهِمة في الصندوق، منها إندونيسيا ذات المداخيل المنخفضة والمتوسطة. لكننا نحذر أيضاً من دعم هذا التمويل عبر ميزانيات المساعدة التقليدية في الدول أو جعله بديلاً عنها، إذ يجب أن يُكَمّل الأموال المخصصة لمنظمات ناجحة مثل «التحالف العالمي للقاحات والتحصين (غافي) و»الصندوق العالمي».في غضون ذلك، يحتاج الصندوق الوبائي، الذي لا يزال قيد التطوير، إلى مساهمات المجتمع المدني ونموذج حوكمة يشمل بلداناً بمداخيل متنوعة. وقد يصبح التمسّك بالنموذج الخيري التقليدي بين الجهات المانحة والمستفيدين فرصة ضائعة تمنع تغيير نماذج التمويل. ويجب ألا تضطر البلدان ذات المداخيل المنخفضة أو المجتمعات المدنية للمطالبة بمكانها في هذا البرنامج، فهي من الشركاء الأساسيين ومن حقها أن تشارك في مختلف المبادرات.لكن يجب ألا يشتق التمويل المستجد لزيادة الجاهزية والتعامل مع الأوبئة من هذا الصندوق الوبائي الجديد فحسب، بل يستطيع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي تحسين أنماط تمويل الاستجابات أيضاً. قد تعمد البنوك والمنظمات الإقليمية مثلاً إلى تكثيف الضغوط وزيادة حوافز التمويل.رابعاً، يجب أن تحصل جميع الدول على الأدوات التي تسمح لها بكبح تفشي الأمراض. لا يزال التأخير القاتل في تسليم لقاحات «كوفيد 19» إلى الناس في البلدان ذات المداخيل المنخفضة يُسبب حالات وفاة كان يمكن تجنبها، حتى أنه يُسهّل استمرار تناقل الفيروس وتطوره.لن تكون الأعمال الخيرية حلاً لهذه المشكلة أيضاً، ولم تنجح هذه المقاربة خلال أزمة «كوفيد 19»، إذ تلقّت البلدان ذات المداخيل المنخفضة كميات ضئيلة من اللقاحات بسبب القوى التي تسيطر على السوق، ويستحيل أن تنجح للتعامل مع مخاطر الأمراض المقبلة.بدأت «مبادرة تسريع إتاحة أدوات مكافحة كوفيد 19» في أبريل 2020 لتسريع توزيع اختبارات «كوفيد 19» وعلاجاته ولقاحاته عالمياً، ويخضع هذا البرنامج للتقييم في الوقت الراهن. لكن يجب أن تطرح هذه العملية توصيات تُمهّد لإنشاء منصة متكاملة تضمن تطوير أدوات الصحة العامة المناسبة وتسليمها إلى جميع الأماكن التي تحتاج إليها. وحققت لقاحات الحمض النووي الريبي إنجازاً علمياً يستحق الإشادة مثلاً، لكن تزداد صعوبة إيصالها إلى الأماكن الدافئة ومنخفضة الدخل وترتفع كلفتها لأنها تتطلب أن يتم نقلها في مستودعات شديدة البرودة. ويُفترض أن تظهر التدابير الطبية المضادة، مثل اللقاحات، لمنع تناقل الأمراض وتجنب الوفيات بدل أن تصبح مصدراً لجني مليارات الدولارات لمصلحة مجموعة صغيرة من المصنّعين، لا سيما إذا كان التمويل العام جزءاً من أسباب النجاح.أخيراً والأهم، لا تزال القيادة السياسية العالمية للتعامل مع الأوبئة غائبة، وقد تفشل العناصر الأربعة الأخرى من الإصلاحات المطلوبة من دون هذه القيادة وتفتح المجال أمام ظهور كارثة وبائية جديدة. لكبح التهديدات الصحية المقبلة والاستعداد لها، يجب أن يضطلع رؤساء الدول والحكومات بدورهم القيادي لإطلاق استجابات حكومية واجتماعية شاملة، وتنسيق الجهود بين مختلف البلدان والمناطق، وتعزيز المساءلة على مستوى العالم.اقترحت منظمة الصحة العالمية أن تكون محور الهندسة الوبائية، لكننا نخالفها الرأي. يجب أن تتجهز هذه المنظمة للاضطلاع بدورٍ تنسيقي أساسي للتعامل مع التهديدات الوبائية، لكن تبقى تلك التهديدات أكبر من أن يعالجها القطاع الصحي وحده. لقد تأثرت معظم قطاعات المجتمع والاقتصاد بجائحة كورونا، ويجب أن تشارك جميع القطاعات في الخطط الرامية إلى منع التهديدات الصحية الجديدة من التحوّل إلى كوارث اجتماعية واقتصادية وصحية، لهذا السبب، يتجاوز التعاون المطلوب ما تستطيع منظمة صحية عالمية واحدة تقديمه. ويجب أن ينشط نظام متكامل على نطاق أوسع.اقترحت مراجعة سابقة أجراها أمين عام الأمم المتحدة غداة أزمة «إيبولا» تأسيس مجلس مستقل ومتخصص بالتهديدات الصحية الكبرى لتحسين مستوى التنسيق والمساءلة في جميع البلدان والمؤسسات الأساسية. قد يسمح هذا المجلس بمراقبة الهندسة العالمية للاستجابة للأوبئة ويضمن تماسكها.وتبرز الحاجة إلى خوض نقاشات كثيرة بعد حول شكل هذا المجلس واحتمال أن يكون مشتركاً بين الجمعية العامة في الأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية، أو ربما يزداد الدعم لفكرة أمين عام الأمم المتحدة حول نشوء مجلس طوارئ للسيطرة على مجموعة متزايدة من التهديدات الوجودية والحالات الطارئة المعقدة. لكننا ما زلنا مقتنعين بأهمية هذا المجلس في الهندسة العالمية المُعدّلة لرفع مستوى التأهب والاستجابة للأوبئة.لا يستطيع العالم أن يعود بالزمن إلى ديسمبر 2019 لتجنب تلك الكارثة العالمية، لكن قد يتحرك المجتمع الدولي اليوم لمنع تكرار تجربة «كوفيد 19»، لا يمكننا أن نكتفي بأقل من حزمة طموحة ومتماسكة من الإصلاحات. في هذا السياق، اقتبس رئيس الوزراء البريطاني الأسبق ونستون تشرشل، كلام الفيلسوف جورج سانتايانا يوماً وقال: «من يفشل في استخلاص الدروس من التاريخ محكوم بتكراره».*إيلين جونسون سيرليف، وهيلين كلارك
توابل - EXTRA
التدابير الراهنة لن تنقذنا من الجائحة المقبلة
21-09-2022