النظام العالمي القديم... الأصل الحقيقي للعلاقات الدولية
كم عمر العالم الحديث؟ يفترض خبراء العلاقات الدولية أن مجال دراستهم بدأ على الأرجح منذ 500 سنة تقريباً، حين راحت مجموعة من الدول في أوروبا الغربية تنشئ المستعمرات في إفريقيا، وآسيا، والأميركتين، فمن وجهة نظرهم، كانت التحولات التي أنتجها الاستعمار الأوروبي مسؤولة عن رسم معالم العالم الذي نعرفه اليوم، فتأثّر هذا العالم أيضاً باتفاقية «صلح وستفاليا» في عام 1648، وهي عبارة عن معاهدتَين وقّعت عليهما القوى الأوروبية المتناحرة لإنهاء سلسلة من الحروب الدموية، حيث بدأت العلاقات الدولية الحقيقية في تلك المرحلة تحديداً برأي هذا المعسكر، وبفضل هذه التسوية، وافقت الدول للمرة الأولى رسمياً على احترام سيادتها المتبادلة في الأراضي المُرَسّمة، ومهّدت هذه الأحداث لظهور «نظام وستفاليا» المُلزِم الذي ينذر بعالمٍ ينقسم بين دول قومية لها سيادتها الخاصة.لا تزال هذه الرؤية التي تعتبر أوروبا محورها الأساسي تؤثر على نظرة معظم خبراء العلاقات الدولية إلى العالم، فعندما يبحث هؤلاء عن المعطيات التاريخية التي تؤثر في أحداث العالم اليوم، غالباً ما يركّزون على النظام العالمي الأوروبي بعد عام 1500، فبرأيهم، لم تكن السياسة موجودة على المستوى العالمي قبل تلك الفترة، ولم تلتزم الدول خارج أوروبا بمبادئ «نظام وستفاليا»، ونتيجةً لذلك، اعتبر خبراء العلاقات الدولية أجزاءً كبرى من التاريخ غير ضرورية لفهم السياسة الحديثة.لكنّ حصر التركيز بعالمٍ طغى فيه الأوروبيون المدجّجون بالبنادق والمدافع على شعوب متنوعة يغفل عن معظم الأحداث التي وقعت خارج أوروبا والأماكن التي استعمرها الأوروبيون، فهذا النوع من التركيز يقرأ تاريخ الهيمنة الغربية بطريقة عكسية، وكأنّ كل ما حصل قبل تلك الحقبة مهّد لسيطرة مجموعة صغيرة من دول أوروبا وأميركا الشمالية، لكن صعود القوى غير الغربية، مثل الصين والهند واليابان، يكشف في العقود الأخيرة إلى أي حد تبقى هذه المقاربة مُضلّلة.
في كتاب Before the West (قبل الغرب)، تستعمل عائشة زاراكول، أستاذة في العلاقات الدولية في جامعة «كامبريدج»، نهجاً بارعاً للخروج من هذا المأزق الفكري، فهي تكتب عبارات واضحة وقوية، وتراجع تجارب الإمبراطوريات غير الغربية السابقة التي سعت إلى إنشاء أنظمة عالمية معينة، حيث تسمح هذه المقاربة بطرح تاريخ جديد للعلاقات الدولية، بما يتجاوز «نظام وستفاليا»، ويكشف تحليلها أبرز الطرق التي استعملتها الأنظمة السياسية في الأجزاء غير الغربية من العالم للتفاعل في ما بينها في الماضي، مما ساهم في توجيه طريقة فهم النظام الدولي اليوم في أوساط القادة السياسيين المعاصرين.تتحدى زاراكول الفكرة القائلة إن النظام الدولي الحديث بدأ مع اتفاقية «صلح وستفاليا» في عام 1648، وتطرح فكرة بديلة واستفزازية وتنسب بداية النظام العالمي الحديث إلى عام 1206، حين كان جنكيز خان حاكم جميع الشعوب في السهوب الأوراسية، وتفضّل زاراكول التركيز على «النظام الجنكيزي» الذي أنشأه خان وخلفاؤه.تطرح زاراكول فرضية جديدة وشائكة، لكنها تغفل عن بعض المراجع الأساسية حول الدبلوماسية في إمبراطورية المغول، فهذه الأدلة ستقوي أفكارها حول طريقة تفاعل المغول وخلفائهم مع دبلوماسيين من الدول المجاورة في ذلك النظام العالمي الناشئ.كانت زاراكول محقة حين شددت على أهمية «النظام الجنكيزي» باعتباره كياناً موازياً لـ«نظام وستفاليا»، فبدءاً من القرن الثالث عشر، أسس المغول في عهد جنكيز خان وخلفائه أكبر إمبراطورية متداخلة في العالم، وكانت تمتد في أنحاء السهوب، من هنغاريا شرقاً إلى الصين غرباً، وكان جنكيز خان يطمح إلى حُكم العالم أجمع، وقد طوّر علاقات دبلوماسية مع جيرانه على هذا الأساس، فلم ينجح أيٌّ من خلفائه في السيطرة على القدر نفسه من الأراضي، لكنهم استوحوا تحركاتهم من المغول وأسسوا إمبراطوريات مينغ وموغال والصفوية وتموريد على التوالي في المساحات المعاصرة من الصين، والهند، وإيران، وأوزبكستان، لكنّ العامل الذي يهمّ العلاقات الدولية الحديثة اليوم يتعلق بإدراك الشعوب التي تقيم راهناً في إمبراطورية المغول السابقة لهذا الماضي، ويتّضح ذلك في طموحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. ابتعدت زاراكول عن الأفكار التقليدية التي تحصر تركيزها بأوروبا عند تحليل التاريخ الدبلوماسي والدولي وقررت تسليط الضوء على المغول بأسلوب مختلف، فهي تهتم بالأنظمة السياسية الآسيوية تحديداً، ولا تفترض أن تفاعلاتها مع الجهات الأوروبية كانت أهم من العلاقات القائمة بينها، حتى أنها تتجنب الفرضية القائلة إن القوى الآسيوية السابقة كانت مجرّد قوى إقليمية، فقد كان جنكيز خان وخلفاؤه يطمحون جميعاً إلى حُكم العالم الذي عاصروه، وهم لم ينجحوا في تحقيق هدفهم، لكنهم أطلقوا جيوشاً ضخمة بقيادة محاربين خيّالة وأسسوا إمبراطوريات تواصلت دبلوماسياً مع جيرانها ومع دول بعيدة عن السهوب الأوراسية: إنه نموذج دائم لحكام آسيا اللاحقين.دام نظام جنكيز خان طوال 500 سنة تقريباً، وامتد على ثلاث مراحل مختلفة، وكان التعايش السلمي بين مختلف الدوائر في القرن الرابع عشر «بداية للعلاقات الدولية المعاصرة... حين اعتُبِرت مصالح الدولة المنطقية أهم من الانتماء الديني». لكن تبالغ زاراكول في هذه الفكرة لأن الانتماء الديني كان متداخلاً مع «مصالح الدولة المنطقية» في الأنظمة السياسية حينها، وبعبارة أخرى، كان خيار الحاكم للديانة التي يريد دعمها يتحدد بحسب هوية حلفائه السياسيين.امتدت الدول المنحدرة من سلالة جنكيز خان على خمسة قرون، وتقاسمت بعض الخصائص الأساسية، وبدل أن تختار هذه الدول حاكمها بناءً على أحقية الابن البكر بالحُكم، كما فعل عدد كبير من القوى الأوروبية، فضّلت انتقاء حكام جدد عبر نظام «الدباغة» (مصطلح مأخوذ من الممارسات التاريخية للقبائل السلتية في الجزر البريطانية)، مما يعني أن يحكم أفضل فرد مؤهل الجماعة بعد وفاة الزعيم، وتبدو هذه الممارسة ديموقراطية ظاهرياً، لكنها لم تكن كذلك بأي شكل. عملياً، كانت هذه العملية تعني أن يضطر كل من يسعى إلى اكتساب السلطة لفرض سيطرته عبر مواجهة عنيفة قد تدوم لسنوات قبل أن يجتمع المحاربون لتعيين قائد جديد، فقد كان المغول يظنون أن السماء (أو الكون) هي التي تختار الفائز النهائي في هذه الصراعات على الخلافة، وعندما كان الحكام المنحدرون من سلالة جنكيز خان يحاولون فهم توجيهات السماء، كانوا يستدعون علماء فلك أجانب لزيارة البلاط ويموّلون المشاريع لبناء مراصد ضخمة. تكتب زاراكول أن الحكام في عصر جنكيز خان تقاسموا على مر القرون «رؤية محددة حول العالم أجمع»، وابتكروا مؤسسات سياسية واقتصادية واجتماعية وعدّلوها واستنسخوها، ويركّز المؤرخون بشكل عام على تفاصيل معينة من ذلك التاريخ السياسي والمؤسسي، لكن تسلّط زاراكول الضوء عليه بطريقة مختلفة لجذب اهتمام خبراء العلاقات الدولية. هي تبتعد بهذه الطريقة عن الرؤية التي تضع أوروبا في صلب العلاقات الدولية عبر دراسة الجهات المؤثرة التي كانت تطمح إلى إنشاء إمبراطوريات عالمية مبهرة بقدر إمبراطوريات المغول، لا سيما تلك الواقعة في المساحات المعاصرة من الصين، والهند، وإيران، وروسيا، وأوزبكستان، وتتجاوز زاراكول الأفكار المحصورة في بلد أو عرق واحد أو ديانة واحدة، وتوضح طريقة تفاعل مختلف حكّام آسيا في ما بينهم ومساعيهم لإنشاء نظام دبلوماسي مشابه لنظام «وستفاليا».يستطيع المحللون أن يتجادلوا حول دقة التفسيرات التاريخية، لكن غالباً ما ترسم الأفكار الشائعة عن الماضي، لا سيما وسط صانعي السياسة، معالم العلاقات الدولية المعاصرة، فبرأي زاراكول، يجب أن يطرح الخبراء السؤال التالي عن الحقبة التي تغطيها في كتابها: «ما المنطق الذي كان سائداً في تلك الفترة ولا يزال قائماً في عصرنا اليوم»؟ يستكشف الفصل الأخير من كتابها «الأوراسية»، وهي حركة فكرية ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وحملت جذوراً غير أوروبية للأنظمة العالمية القائمة في أوروبا وآسيا معاً، وتذكر زاراكول أن المفكرين في اليابان وروسيا وتركيا فهموا الآثار المتواصلة لحُكم المغول في مجتمعاتهم. يأتي هذا التحليل في الوقت المناسب اليوم، فمنذ فترة العشرينيات، يتجادل المحللون الروس، من أمثال نيكولاي تروبيتزكوي وجورج فيرنادسكي وليف غوميلوف، حول طريقة تأثير حُكم المغول طوال قرنَين على روسيا الحديثة، فقد دعا هؤلاء المحللون القادة المعاصرين إلى تقليد جنكيز خان وتوحيد الروس كي يتمكنوا من بناء إمبراطورية جديدة تشمل أوروبا وآسيا، وقد حظيت هذه الفكرة بشعبية واسعة منذ انهيار الشيوعية، ويقارن الكثيرون بوتين بجنكيز خان، ولا يهتم مستشارو بوتين بدقة الأحداث التاريخية، بل إنهم يتكلمون عن «الأوراسية» وقدرتها على تقوية روسيا لاستذكار التقاليد التي لا تتعلق بمعاهدة «وستفاليا». كانت زاراكول محقة في هذه النقطة: يسمح التاريخ الكامن وراء الحركة «الأوراسية» بتفسير الأحداث في الأراضي التي حكمها المغول في الماضي.على غرار أي كتاب رائد في مجاله، يطرح كتاب زاراكول عدداً كبيراً من الأفكار الجديدة لدرجة ألا تعرضها بتفاصيل دقيقة، فهي تبالغ تحديداً في تقدير أثر إمبراطورية المغول، لكنها تثبت أن تاريخ مختلف أجزاء العالم قبل العام 1500 هو الذي يوجّه الحاضر والمستقبل.لكن من خلال بدء التحليلات في عام 1206، تجازف زاراكول بالإغفال عن أهمية الأحداث التي سبقت تلك الحقبة. عندما اعتنق الأمير فلاديمير الأول (سُمّي بوتين تيمناً به) الديانة الأرثوذكسية الشرقية في عام 988 تقريباً، كانت عاصمته تقع في كييف، واليوم، تهدف مساعي الرئيس الروسي لإنشاء إمبراطورية أوراسية جديدة إلى ضم قلب الأرثوذكسية الروسية الذي نشأ في أواخر القرن العاشر.تُركّز زاراكول على هذه الفكرة بالذات: تكشف دراسة المجتمعات، التي تقع خارج أوروبا وشكّلت نموذجاً يُحتذى به لإنشاء الأنظمة العالمية قبل عام 1500، خصائص كثيرة عن العالم المعاصر، لا تزال الأنظمة العالمية التي أسسها الحكام السابقون خارج أوروبا بالغة الأهمية، لأن الشعوب التي تقيم في تلك المناطق اليوم تتذكر إنجازات وأنظمة الماضي وتحاول تكرارها أحياناً. يمكن التصدي للنزعة إلى حصر التركيز بـ«نظام وستفاليا» من خلال التنبه إلى الممارسات الدبلوماسية التي طوّرها الحكام السابقون، بما في ذلك خلفاء جنكيز خان، وفي هذا العالم الذي أصبح متعدد الأقطاب، يمضي القادة الأميركيون معظم وقتهم وهم يفكرون بالخطوات التي يستعد لها نظراؤهم في أنقرة، وبكين، وموسكو، ونيودلهي، وطوكيو، لكن نادراً ما يفكرون بتاريخ هذه الأجزاء من العالم، وقد حان الوقت كي يحذو المزيد من المحللين حذو زاراكول ويدرسوا ماضي عدد كبير من المراكز السياسية والاقتصادية خارج أوروبا.* فاليري هانسن