هدّد الرئيس التركي رجب طيب إردوغان بغزو اليونان مراراً، ثم استنكر المقاربة الغربية الاستفزازية تجاه روسيا، لكن أنقرة تتوق، منذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا، إلى تسويق نجاحها الاستثنائي في إقامة توازن بين طرفَي الصراع لمصلحة تركيا وحلف الناتو والعالم أجمع، وتعكس هذه المقاربة إصرار إردوغان على تطبيق سياسة خارجية مستقلة، حيث تستعمل تركيا قوتها العسكرية، وتأثيرها الثقافي، وموقعها الجغرافي الفريد من نوعه، للتوفيق بين مختلف القوى العظمى.لكن يبقى نجاح هذه السياسة محط جدل، فقد أثبتت الطائرات المسيّرة والجهود الدبلوماسية التركية أنها مؤثرة أكثر مما توقّع الكثيرون، مع أنها أقل تأثيراً مما يزعم منظّمو حملات إردوغان الدعائية، لكن رغم فاعلية سياسة تركيا الخارجية المستقلة في هذا الصراع، تبرز مفارقة أعمق على مستوى الأسس التي ترتكز عليها تلك السياسة، لطالما اعتبر صانعو السياسة التركية استقلاليتهم المستجدة رداً بنيوياً على ضعف الغرب المتزايد ونشوء عالم متعدد الأقطاب، لكن في آخر ستة أشهر، سهّل ضعف روسيا غير المتوقع الحفاظ على هذا التوازن التركي.
لو اجتاحت روسيا كييف خلال أسابيع، كما توقّع عدد كبير من المحللين، لما كان الكثيرون اليوم سيشيدون بطائرات «بيرقدار» التركية أو دور الوساطة الذي تؤديه أنقرة، بل كان إردوغان سيواجه بيئة استراتيجية أكثر قوة، بدءاً من البحر الأسود، مروراً بالقوقاز، وصولاً إلى سورية، وكان الاستياء منه سيتصاعد في الولايات المتحدة وأوروبا، وهذه النتيجة كانت ستمنح أنقرة منافع أخرى، لكنها ستجبرها على البحث عن توازن أكثر تعقيداً.يستطيع صانعو السياسة الأميركية أن يراجعوا هذه الأحداث كلها كي يقتنعوا بضرورة وقف محاولات إعادة تركيا إلى محورهم، فقد اعتُبِر غزو أوكرانيا سبباً لدفع الغرب إلى مراعاة إردوغان عند محاولة إصلاح العلاقات مع تركيا، لكن يكشف رد أنقرة أن العكس صحيح، فقد أثبتت أنقرة أنها ستتعامل مع الظروف الجيوسياسية المتبدلة عبر التطلع إلى حصد منافع فورية، واستفادت تركيا مباشرةً من بيع الطائرات المسيّرة إلى كييف مثلاً ومن دورها في تسهيل تصدير الحبوب الأوكرانية، وتخدم هذه الخطوات المصالح الأميركية، لكن ستتابع أنقرة تطبيقها من دون الحاجة إلى أي تشجيع أو حوافز من واشنطن، وإذا أضعفت خطوات أخرى المصالح الأميركية، منها التهديد بمنع انضمام دول الشمال إلى حلف الناتو أو شن حرب ضد اليونان، تستطيع واشنطن أن تمارس ضغوطاً مستهدفة أو تستعمل أسلوب التملق عند الحاجة.أدى غزو أوكرانيا إلى إقناع أنقرة بصوابية سياستها الخارجية المستقلة، تزامناً مع التشكيك بالفرضيات الكامنة وراءها، فمن خلال إدراك هذه الوقائع، قد تفهم واشنطن مسار تركيا الحقيقي وتطلق الرد المناسب.على المستوى الأمني، كان استيلاء روسيا على شمال ساحل البحر الأسود سيطرح مخاطر طويلة الأمد على تركيا، ولن يكون التصدي لها ممكناً من دون تكثيف التعاون مع حلف الناتو، وكان هذا الوضع سيشجّع واشنطن على تكثيف تعاونها أيضاً، لكن نظراً إلى انتساب بلغاريا ورومانيا إلى الناتو وظهور خيارات نقل جديدة عبر ميناء «ألكسندروبولوس» اليوناني، أصبحت واشنطن اليوم أكثر مرونة للتحرك في البحر الأسود مقارنةً بفترة الحرب الباردة، وكان هذا الوضع سيغيّر النزعة إلى تكثيف التعاون مع أنقرة فتضطر تركيا، ولو بعد فترة، لمواجهة روسيا وحدها في نقاط احتكاك متعددة في أنحاء المنطقة.لكن بعدما أصبحت روسيا عالقة في شرق أوكرانيا، استفادت تركيا من ضعفها في ساحات أخرى، واضطلعت قوات حفظ السلام الروسية بدور بارز بفضل اتفاق وقف إطلاق النار الأولي بعد الحرب بين أرمينيا وأذربيجان عام 2021، فبدا وكأن روسيا تتجه إلى ترسيخ نفوذها في ناغورنو كاراباخ، لكن في الشهر الماضي، أحرزت القوات الأذرية المتحالفة مع تركيا تقدماً إضافياً، فضغطت على أرمينيا عبر حد أدنى من الردود الدبلوماسية أو العسكرية من الجانب الروسي.في سورية، أدى الغزو الأخير إلى تقليص مخاطر اندلاع أي هجوم جديد ضد إدلب، حيث تنشر تركيا راهناً 10 آلاف جندي على الأقل منذ التقدم الذي أحرزه النظام في مارس 2020، ومن المستبعد أن يحصل أي تقارب ناجح بين إردوغان والرئيس السوري بشار الأسد، رغم التكهنات المعاكسة في الفترة الأخيرة، لكن إذا تحقق هذا الانفراج بشروط مقبولة لأنقرة، كأن يستمر الوجود التركي في البلد رغم اعتراض الأسد، لن يحصل ذلك إلا نتيجة تراجع الدعم الروسي للنظام.بدل أن تتأثر تركيا بنشوء عالم متعدد الأقطاب، استفاد البلد من البقاء على مسافة من القطب الأكثر قوة، وأثبت الغرب قدرته على توحيد صفوفه بما يفوق توقعات الكثيرين (مع أن هذه النتيجة كانت ستبدو أقل إبهاراً لو انتصرت روسيا ميدانياً)، فأصبحت تركيا أكثر قدرة على تحقيق مصالحها، ويظن مؤيدو السياسة الخارجية المستقلة أن الحكومات التركية السابقة كانت أكثر رضوخاً للولايات المتحدة وحلف الناتو، انطلاقاً من تبعية أيديولوجية معينة ترسّخت مع مرور الوقت نتيجة الانقلابات المدعومة من الغرب، لكن المسؤولين في تلك الحكومات، العسكرية منها والمدنية، أرادوا تطبيق سياسة خارجية أكثر استقلالية قبل أن تعوقهم مخاوفهم الاستراتيجية من الاتحاد السوفياتي. بعبارة أخرى، منعهم النظام ثنائي القطب في حقبة الحرب الباردة من تحقيق هذا الهدف.في بداية الغزو الروسي، توقّع جزء كبير من المراقبين أن تتجنب تركيا الانحياز إلى طرف معيّن قبل أن تضطر لاختيار فريق دون سواه في نهاية المطاف، لكن لم يحصل ذلك حتى الآن، فقد تتراجع منافع هذا الوضع أو يبتعد الحلفاء الغربيون عن تركيا بدرجة إضافية، لكن أعطت هذه المقاربة منافع حقيقية في الوقت نفسه، فبعد أشهر من الإعلانات المجانية، بدأت طلبات جديدة لطائرات «بيرقدار» تتلاحق مع مرور الأيام، وتزامن تدفق الأموال الروسية مع تحذيرات من واشنطن بكل بساطة، لكنه سمح في المقابل بتخفيف الأعباء عن الاقتصاد التركي الذي يوشك على الانهيار، فعملياً، أصبح هذا الهدف ممكناً بعد نجاح المقاومة العسكرية الأوكرانية، بدعمٍ من الغرب.من خلال تقبّل هذا الواقع، ستصبح واشنطن أكثر قدرة على تحقيق مصالحها من دون الانشغال باستمالة تركيا مجدداً والاضطرار لتقديم تنازلات إضافية، فقد كان دعم تركيا العسكري لأوكرانيا وقدرتها على تأدية دور الوساطة بين الأطراف المتناحرة من الأسباب التي دفعت الغرب إلى تقبّل إردوغان وتأييد نزعته المستقلة، لكن هذه السياسات التركية تحمل دلالات أخرى، فقد اختار الرئيس الأميركي جو بايدن، خلال السنة الأولى من عهده، مقاربة عدم التدخل في شؤون تركيا، فخفّف تبادلاته مع إردوغان لأقصى حد، وطلب من وزارة الخارجية الأميركية أن تُصدِر مواقف متكررة للتعبير عن قلقها من الوضع حين يرتكب إردوغان انتهاكات جديدة لحقوق الإنسان، فهو لم يقدّم أي تنازلات بشأن العقوبات المفروضة على تركيا بعد شرائها النظام الروسي «إس400»، ولم يغيّر مقاربته لمطالبة تركيا بالتعاون في مسائل أخرى.طبّقت تركيا سياساتها تجاه أوكرانيا، بغض النظر عن طبيعتها، في ظل هذه الظروف المحتدمة، ويُفترض أن يُسَرّ الغرب بهذه السياسات برأي المتساهلين مع أنقرة، لكن يعني هذا التوجه أن استرضاء إردوغان لم يكن ضرورياً، ولا تزال واشنطن مستاءة من تصرفات تركيا على الأرجح، لكنها قد تتنفس الصعداء على الأقل حين تدرك أن ما يحصل هو نتيجة للفشل الروسي.* نيكولاس دانفورث - WOTR
دوليات
فشل روسيا في أوكرانيا مكسب لإردوغان
23-09-2022