في ظلال الدستور: الإسلام الثورة الأعظم في التاريخ... ثورة بيضاء (2)
العنف والثوراتإن من يتابع تاريخ الثورات في العالم لا يجد ثورة لا يصاحبها عنف سوى الثورة الإنكليزية عام 1688 ضد الملكية المطلقة، لذلك يقال إن الثورة البيضاء تكون انقلابا سياسيا في قمة الهرم السياسي والاجتماعي لنظام الحكم، فالتغيير الجذري والفجائي يأتي من داخل السلطة لمواجهة تحديات على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي بعد أن عجزت الطبقة الحاكمة عن استنفار أنصارها في هذه المواجهة، فقد كانت الثورات يتخللها عنف، منذ أن قامت ثورة سبارتاكوز قبل الميلاد (71-73 ) الذي هرب من سجنه في مدرسة لتدريب المصارعين برفقة 70 مصارعاً تمكنوا مع من انضم إليهم من الرقيق والفلاحين ورعاة السهول في جنوب إيطاليا من التغلب على القوات الرومانية (سنة 73ق.م) وعلى جيشين من هذه القوات في السنة التالية إلى أن تمكن الجيش الروماني من القضاء عليهم في سنتها الثالثة، ولم يبق من الثوار سوى خمسة آلاف من الرق الذين صلبوا على أعمدة خشبية حتى ماتوا، لأنهم لم يعرف لهم سيد، كما تحولت الثورة الفرنسية (1789م) إلى العنف عندما بدأت فرنسا حروبها مع النمسا وأعقب هزيمة القوات الفرنسية اتهام الملك لويس السادس عشر بالخيانة وإعدامه هو وزوجته الملكة إنطوانيت، وتلتها ثورات فرنسية أريقت فيها دماء كثيرة، كما تخللت الثورة الروسية التي قامت 1905 مذابح ومجازر كثيرة، وقدر عدد ضحايا الثورة الروسية (1907) بنحو 1500 قتيل وجريح عندما اندلعت تظاهرات العمال وانضمت إليهم بعض قوات الجيش. وفي المؤتمر السادس للحزب البلشفي، قرأ ستالين البيان الذي أعده لينين الغائب عن المؤتمر، والذي قرر فيه أنه من المستحيل على الطبقة العاملة أخذ السلطة بصورة سلمية، وأنه لا يمكن الاستيلاء على السلطة إلا بالقوة.
ويسجل تاريخ الثورة الصينية أن عدد المشاركين في المسيرة الكبرى من الطبقة المسحوقة كان 90 ألف صيني ساروا على أقدامهم أكثر من 6000 ميل مزودين بأسلحتهم وذخيرتهم، وقد استطاع ماوتسي تونغ أن يدفع بهم إلى معركته مع خصمه شيانغ كاي– شك ليتغلب على جيشه رغم قوة هذا الجيش العسكرية مستخدما في ذلك الحرب النفسية التي لم يكن لخصمه القدرة على هزيمتها.المسيحية والحروب الصليبية ولم تكن في الحروب الصليبية، ما يستحق أن يطلق عليها اصطلاح الثورة، الذي أطلقناه على الثورة الإسلامية، فلم يكن هدفها إحداث تغييرات جذرية كتلك التي أحدثتها هذه الثورة في العالم، كما لم يكن هدفها تأمين الطريق إلى بيت المقدس أمام الحجاج المسيحيين وحمايتهم من بطش المسلمين، كما زعم أصحابها، لتكون حربا عادلة، وفقا لأفكار في القانون الدولي العام على التفرقة بين الحرب العادلة والحرب غير العادلة، بالرغم من أن الحجاج المسيحيين كانوا يلقون كل حفاوة وترحيب وتكريم من المسلمين ومن سلاطينهم، ويتناقض مع هذا العداء، ويتعارض مع هذه الحرب الضروس، ما تدعو إليه المسيحية من زهد في الحياة واعتزال العالم، ومن العفو والمغفرة، وفقا لتعاليم المسيح «أحبوا لاعنيكم وباركوا مغضبيكم وصلوا لأجل الذين يسيئون اليكم»، ولكن الرغبة في استلاب ثروات الشعوب واستغلالها كان دافع الغرب الحقيقي لهذا العداء وهذه الحروب، متشحا بوشاح المسيحية السمحة الجميلة، والتي كان الإسلام بارا بها في كتابه الكريم في قوله تعالى «لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ» (سورة المائدة 22)، كما كان مقام سيدنا عيسى عظيما في القرآن آتاه الكتاب وجعله نبيا وأوصاه بالصلاة والزكاة، ولم يجعله جبارا شقيا فسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا». الكنيسة والسياسة فقد كان للسياسة دور كبير في الحروب الصليبية، عندما تنكرت الكنيسة لدعوة المسيح، دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله، وقام الصراع بينها وبين ملوك أوروبا، وكانت تسعى دائما إلى السلطة، إلى أن تفتق ذهن البابا أربان الثاني إلى إعلان الحرب على المسلمين، ليغرق ملوك أوروبا فيها، ولتتوج الكنيسة بنصر عظيم بفتح بيت المقدس، فوقف في اليوم التاسع والعشرين من نوفمبر سنة 1095، أمام كنيسة كليرمون في فرنسا، ودعا المسيحيين للانتظام في جيش واحد للقضاء على المسلمين الكفرة، كما أسماهم، يحدوه الأمل أن تتحقق على دعوته مذبحة جديدة للمسلمين، كتلك التي قامت بها حملة فرنسية إسبانية على بلد صغير وادع على مقربة من سرقسطة بإسبانيا، اسمه برشتر، قتلت من أهله الآلاف، وأسرت آلافا من النساء المسلمات وباعتهن رقيقا، كما اغتصب القتلة النساء أمام أزواجهن، وهي المذبحة التي فرح بها البابا غريغوري السابع، وكان طامعا في السلطة ظمئا الى الدماء، وختم حياته شريدا هاربا من بلد إلى آخر، بعد أن أوصى بالبيعة لكرسي البابوية لسفاح آخر منشق على كنيسة روما أربان الثاني، التي لم يدخلها بعد مبايعته من الكرادلة المنشقين، إلا في عام 1093 (485هـ)، وقد أخذ يقتل وينهب ويرشو الناس، حتى رضي عنه هنري الرابع إمبراطور ألمانيا ومكنه من دخول روما. وقد راح المغامرون والسفاحون من النورمانديين، الذين كانوا يحرقون الكنائس في ألمانيا والمجر وبلاد الدولة البيزنطية، يقيدون أسماءهم في جيوش أربعة خرجت من جنوب فرنسا وجنوب إيطاليا، بعد أن نهبوا الكنائس في المدن التي مروا بها ونهبوا وسلبوا أموال أهلها، فقد كانوا من المغامرين والسوقة والرعاع والطامعين في أراضي العرب وأموالهم، وبعض الفرسان المغامرين، وقد وعدهم بها البابا أريان الثاني بعد إهداره دماء المسلمين، وكان يمنحهم شارة الصليب ويباركهم وقد بلغ عددهم مئة ألف بعد أن تسامح الناس في أوروبا بما يدعو إليه البابا، الذي كان قد انتقل من فرنسا إلى إيطاليا بهذه الدعوة، غير عشرين ألف خرجوا بنسائهم وأولادهم مهاجرين إلى الشرق خلف مواطن فرنسي يدعى بطرس والتر، لقب بالناسك وقد زعم كذبا أنه أراد الحج إلى بيت المقدس فمنعه المسلمون، وكان يمشى أمام هذه الجموع حافيا لا يقرب الماء الى جسده، ولم يستطع السيطرة على جموعه فانطلقت في المجر وبلغراد تسرق وتنهب وتشعل النيران.وكانت الإمدادات، لهذا الجيش، لا تتوقف من أوروبا وصقلية من المقاتلين من البارونات والفرسان الرسميين، أي الذين تدربوا تدريبا كافيا وحصلوا على لقب فارس من الملوك والكنيسة، مما ساعد الجيوش الأربعة في الحرب في الصمود، والمسلمون لاهون في الحروب فيما بينهم، مع ضعف الدولة الفاطمية وانقضاء عهد الخلفاء الأقوياء بعد موت ملك شاه عام 1092 م واختلاف أبنائه، ووزراء البيت السلجوقي يزينون لكل منهم حرب إخوته والقضاء عليهم، ولو بقي هذا البيت على اتحاده، لما استقرت للصليبيين في الشام قدم. (نور الدين زنكي فجر الحروب الصليبية- د. حسين مؤنس– ص87)، إلى أن قيض الله لهذه الأمة، نور الدين محمود الذي ورث ملك أبيه، عماد الدين الزنكي بعد وفاته، ولم يكن لأبيه من هدف منذ تولى أمور الموصل، إلا جهاد الإفرنج، الذين احتلوا الشام، باسم الصليب.وقد زعموا أن غزوهم الفاجر لبيت المقدس والشام، حرب مقدسة لحماية الحجاج المسيحيين، وهي كذبة كبرى، بعد أن كشف صلاح الدين مآربهم الحقيقية من هذه الحرب، فوحد الممالك العربية في مملكة واحدة، في حروب متصلة وقد ورث ابنه نور الدين هذا الحكم، بعد وفاته، فاستطاع الأخير أن يوحد الممالك العربية في مملكة واحدة، وأعد جيشا قويا استطاع أن ينهك قوى الجيوش الصليبية ويزرع الرعب في قلوبهم، وجاء نور الدين بعده ليضم مصر الى هذه المملكة الموحدة بقيادة صلاح الدين، الذي زحف بجيشه من مصر، ليطرد الفرنج من الأراضي المقدسة، وكان صلاح الدين محاربا قويا وسياسيا بعيد النظر، يرسم خططه على مهل ويسير في تنفيذها في أناة.وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.