فوضى الاجتهادات الدستورية في لبنان
في ظل تخبط الشعب اللبناني في فوضى الأزمات المتراكمة والمتزايدة، تزداد درجة اللامبالاة- حتى لا نقول ما قد لا يليق- لدى بعض الهاربين من واقع مسؤوليتهم الجزئية أو الكلية عمّا آلت إليه الأمور إلى مخطط شيطاني عماده دغدغة مشاعر المناصرين بشعارات استرداد الحقوق المسلوبة وضمان المكاسب الفئوية أو المغانم الحزبية، والحقيقة أنهم يستخدمون كل أنواع الأسلحة- المشروعة والمحرّمة- في ميدان الصراع على السلطة بهدف التمسك بما أمكن من نفوذ شخصي أو طموحات خاصة قد يخسروها نتيجة التبدلات المحلية والخارجية.ربما أصبح هذا الواقع المرير مسلّمة من مسلمات الممارسة السياسية التي يحكمها الأسلوب الميلشياوي والتفكير الفئوي اللذان يمارسان على شعب صامت عن عجز أو جهل أو عصبية، ولكن أن يصبح الاجتهاد الدستوري أداة من أدوات الاستخدام السياسي فتلك هي الطامة الكبرى التي تحوّل القاضي الى خادم في القصر وتجعل من القانوني مرتزقا في البلاط وتصيّر المستشار أداة بلا إرادة! في الواقع، قد لا يعني للكثيرين ما يتبجح به البعض بشأن صراع الصلاحيات بين المؤسسات الدستورية وبين القائمين عليها، ولم يعد مستهجناً أي موقف يبرر أو يشجع رئيس الجمهورية على عدم مغادرته قصر «بعبدا» عند انتهاء ولايته الدستورية إلا بعد أن يضمن لحزبه السياسي والمقربين منه ما أمكن من مكاسب، كما قد لا تخفى أسباب تمسك رئيس الحكومة بموقفه من دستورية انتقال صلاحيات رئيس الجمهورية المنتهية ولايته الى الحكومة المستقيلة، ولا أظن أي موقف أو رأي سيغير شيئاً في «التكتيكات» التي يمارسها رئيس مجلس النواب أثناء الدعوة لجلسات التشريع أو الانتخاب وفي طريقة احتساب النصاب وآليات التصويت، أو من خلال توقيت استخراج «أرانب» الحلول التي تناسب رؤيته للأمور. ما يهزّ وجدان أي قانوني وأي متابع موضوعي للشأن العام هو هذا الكم الهائل من العبث والتشويه في تفسير النصوص الدستورية من أهل القانون وليس من أهل السلطة والسياسة فقط، الأمر الذي تطور لدى البعض الى المجاهرة بعدم الاكتراث بالشرعية الدستورية التي من المفترض أنها تغطي أي تصرف يقدم عليه من يناصرونه أو يرتزقون من فتات عطاياه! لقد نجح الإعلام الموجّه بإدخال فرضية الفراغ في الكرسي الرئاسي الى أذهان معظم اللبنانيين الذين أصبحوا- بتوجهاتهم وانتماءاتهم المختلفة- منشغلين بالبحث عن مبررات تؤيد هذا الطرف أو ذاك فيما يخص النقاش السياسي والدستوري حول الخطوات التي ستتخذ بشأن البقاء في القصر الجمهوري أو الخروج منه والصراع على الصلاحيات والجهة التي سيسلّم لها الرئيس زمام الأمور، وكأن الفراغ والمراوغة في تشكيل الحكومة أصبحت من بدهيات الأمر الواقع، ويبقى على الجميع البحث عن مبررات وتفسيرات دستورية لمحاولة تجميل الواقع البشع أو على الأقل تقبل تفاصيله القبيحة.
على الرغم من المحاولات التي مارسها البعض في مؤتمر «الطائف» عام 1989 للضغط نحو حصر صلاحية تفسير الدستور اللبناني بالمجلس الدستوري، وورود ذلك صراحة في وثيقة الوفاق الوطني التي تشكل اتفاقاً سياسياً انبثق عنه «دستور الطائف»، جاء نص المادة (19) من القانون الدستوري رقم (18) الصادر بتاريخ 21/ 9/ 1990 خالياً من الإشارة الى أي اختصاص للقضاء الدستوري في هذا الشأن. وعليه تفرّد مجلس النواب المشكّل من سياسيين تتحكم أهواؤهم في معظم آرائهم باختصاص تفسير الدستور، دون أن يكون هناك نص صريح على ذلك، على سند من التبرير أن السلطة التشريعية بمقدورها، عملاً بأحكام الدستور، أن تعدّل أو تلغي النصوص الدستورية، مما يسمح لها- وفق منطق من يملك الأكثر يملك الأقل- أن تفسر النص الدستوري. هذا الجدل حول صلاحية تفسير الدستور ليس بجديد على الساحة السياسية اللبنانية، ففي 7 يناير من عام 2021 صرّح رئيس الجمهورية ميشال عون خلال لقاء جمعه برئيس المجلس الدستوري وبعض القضاة، بأن «دور المجلس الدستوري لا يجوز أن يقتصر على مراقبة دستورية القوانين فحسب، بل كذلك تفسير الدستور وفق ما جاء في الإصلاحات التي وردت في وثيقة الوفاق الوطني»، الأمر الذي أثار حفيظة رئيس مجلس النواب الذي ردّ ببيان مكتوب ورد فيه أن «دور المجلس الدستوري هو مراقبة دستورية القوانين دون أن يتعداها إلى تفسير الدستور الذي بقي من حق المجلس النيابي دون سواه... وهذا أمر حسمه الدستور ما بعد الطائف بعد نقاش ختم بإجماع في الهيئة العامة».وهكذا تحوّل تفسير النص الدستوري الى نقطة خلافية جديدة تضمّ الى ملف الخلافات السياسية اللبنانية، مما فتح المجال أمام القانونيين الذين يدورون في فلك السياسيين للبحث عن حل من هنا أو تفسير من هناك يرضي مصدر رزقهم ويبرر للرأي العام تصرفات وأقوال الجهة التي يميلون اليها. إنها الفوضى بحد ذاتها... فلكل شيء أصوله ولكل ميدان فرسانه، وعكس ذلك يعني الدوران في حلقات مفرغة دون مكابح ولا ضوابط، وهذا بالفعل ما يحصل في لبنان على كل المستويات وفي المجالات كافة، وكأن الأمر ليس مصادفة بل هو عبارة عن سلسلة متكاملة من حلقات التخبط والعشوائية التي تحكمها شريعة الغاب!* كاتب ومستشار قانوني.