أي خيارات أمام روسيا؟
قد تُحدد الأسلحة النووية التكتيكية مسار المعارك، لكنها لا تحسم نتيجة الحرب ولا تجعل الأرض غير صالحة للعيش، ولهذا السبب يكون الخيار النووي الآخر أمام روسيا استراتيجياً بطبيعته، وهو يقضي بتدمير المدن الأوكرانية بسلاح من النوع الذي استُعمِل في هيروشيما، ويحمل هذا الخيار نقطتَي ضعف، تبقى الرياح في أوكرانيا متقلبة، فهي تهبّ نحو الشمال الشرقي في شرق أوكرانيا مثلاً، بعبارة أخرى، قد يؤدي أي انفجار نووي استراتيجي إلى وصول شظايا التفجير إلى روسيا، لا سيما مدينة «فورونيغ» الروسية الاستراتيجية في هذه الحالة، باختصار قد يؤثر أي استخدام للأسلحة النووية الاستراتيجية على الأراضي الروسية.لكن يتعلق مصدر خطر آخر، ولو أنه مستبعد، بطبيعة الرد الغربي، إذ تملك الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا أسلحة نووية استراتيجية أيضاً، وقد تعتبر أي دولة منها الضربة الروسية ضد أوكرانيا تهديداً محتملاً عليها، مما يدفعها إلى الرد بالمثل، ويبقى هذا الخيار مبالغاً فيه وقد لا يفكر به أحد، لكن لا مفر من تضخّم المخاوف المتداولة في مراكز القيادة، ونظراً إلى تراجع أهمية الأسلحة النووية التكتيكية والكوارث التي تستطيع الأسلحة النووية الاستراتيجية إحداثها، تشكّل التهديدات النووية الروسية حرباً نفسية ممتازة (إلا إذا أخذ أحد أعداء روسيا هذا التهديد على محمل الجد)، لكنها تعجز عن حل المشكلة الروسية العسكرية.يجب أن يغيّر الروس ديناميات الحرب إذاً كي لا يضطروا لتقبّل تسوية سياسية، حيث يتعلق العامل الأساسي في هذا المجال بطرح تهديدات على الأوكرانيين من اتجاهات متنوعة، على المستويَين التكتيكي والاستراتيجي في آن، فيحتاج الروس في المقام الأول إلى تبديد مفعول المعدات اللوجستية الأميركية عبر طرح تهديد عسكري جدّي على حليف آخر للأميركيين أو مهاجمته مباشرةً، ولا أحد يعرف بعد مدى قدرة الولايات المتحدة على إرسال المعدات إلى جبهتَين، لكنّ هذا الوضع قد يؤدي إلى اختلال التوازن الأميركي، فتضطر واشنطن لتقليص دعمها لأوكرانيا، مما قد يمنح روسيا فرصاً جديدة.
تتراجع الخيارات التي تقدّمها المواقع الجغرافية المتاحة، لكن تبقى مولدوفا ورومانيا الأفضل بينها، فهما بلدان مترابطان، ولا يمكن إطلاق اعتداء برّي، بل يجب أن يستفيد معسكر الهجوم من البحر الأسود، فينشر وحدات عسكرية واسعة في رومانيا التي تبقى جزءاً من حلف الناتو وتستضيف قوة بحرية أميركية، ولتحقيق هذه الغاية، يجب أن يستعمل الروس الصواريخ أولاً للتخلص من الصواريخ الأوكرانية المضادة للسفن، كتلك التي أغرقت الطراد الروسي «موسكفا»، وفي المرحلة اللاحقة، يجب أن يحافظ الروس على تفوّقهم الجوي أو الصاروخي فوق البحر الأسود، ثم يُسقِطون قوة كافية لإجبار القوات الرومانية على القتال عبر الاستعانة بقوات أميركية واسعة.تبرز أيضاً خيارات أخرى يمكن استعمالها كمصادر إلهاء، وقد تعطي أثراً كافياً لدفع الولايات المتحدة إلى تغيير طريقة استخدام قواتها، لكن يُفترض أن ترتكز هذه الجهود كلها على تحركات برية حين تكون روسيا في موقف صعب، وقد يفتعل أي هجوم على البلطيق اعتداءً بولندياً كبيراً على الجناح الروسي، ولا مفر من رصد أو استباق أي هجوم ضد فنلندا مثلاً. ينطبق المبدأ نفسه على رومانيا، لكن يتراجع هذا الاحتمال بدرجة معينة. في النهاية، تبقى المناورة الرومانية بحد ذاتها مشبوهة، لكن قد تضطر روسيا للدفاع عن نفسها ولا تبدي استعدادها للتخلي عن الحرب، كما تتراجع الخيارات الجاذبة في هذه المرحلة، لكن تبقى التكاليف السياسية للتخلي عن الحرب هائلة، وإذا استمر الصراع وعجز الروس عن استرجاع زمام المبادرة، فلن يبقى أمامهم إلا الدعاء لتحسّن الوضع.أما الخيار الأخير، فهو يقضي بجمع القوات العسكرية شرقاً ثم مهاجمة أوكرانيا بقوات جديدة، ويبقى هذا الحل الأقرب إلى الواقع بالنسبة إلى روسيا، على افتراض أنها تستطيع جمع قوة واسعة وتدريبها وتحفيزها، وإلا ستتعادل روسيا مع خصمها وتعجز عن فرض إرادتها في أوكرانيا.* جورج فريدمان