في مدينة طرابلس، التي ينحدر منها أغنى السياسيين بلبنان، ينعي السكان الأشد فقراً موتاهم مرة أخرى.ومن بين هؤلاء الموتى مصطفى ميستو، الذي كان سائق سيارة أجرة في المدينة، وأطفاله الثلاثة الذين تم العثور على جثثهم قبالة الساحل السوري يوم الخميس بعدما غادروا لبنان على متن قارب مهاجرين يُقل أكثر من مئة شخص.
ومع انتشال 94 جثة، تردد أن العشرات منها لأطفال، فإن هذه الرحلة تُعد الأكثر ضحايا التي تنطلق من لبنان حتى الآن، إذ يضغط اليأس المتصاعد على مزيد من الناس لمحاولة خوض الرحلة المحفوفة بالمخاطر على متن قوارب متهالكة ومكتظة للبحث عن حياة أفضل في أوروبا.وقبل الانطلاق في الرحلة المشؤومة، تراكمت على ميستو الديون بشكل كبير، وباع سيارته وذهب أُمه لتوفير الطعام لأسرته إلا أنه ظل غير قادر على توفير أشياء بسيطة مثل الجبن لشطائر أطفاله، حسب أقاربه وجيرانه.وقالت روان المانع (24 عاماً) وهي من أقاربه، «كل العالم (الناس) يا اللي بتروح بالبحر عارفين حالهم رايحين يموتوا، ولكن بيقولوا بركي وصلنا لنتيجة (قد نصل إلى نتيجة) بركي فيه أمل، عم يتأملوا، يعني هم رايحين على أمل، ما رايحين انتحاري، هم رايحين يريدون تجديد حياتهم، انظروا الآن هم صاروا في حياة جديدة وإن شاء الله حياتهم هناك (يعني في مماتهم) تكون أحلى من حياتهم هذه».
تفاوتات صارخة
وسلطت المأساة الضوء على الفقر المتزايد في شمال لبنان، لا سيما في طرابلس، وهو ما يدفع المزيد من السكان للإقدام على خطوات يائسة مع استمرار الانهيار المالي المدمر لثلاث سنوات.كما سلطت الضوء على التفاوتات الصارخة والحادة بشكل خاص في الشمال، فطرابلس هي مسقط رأس عدد من السياسيين من فاحشي الثراء، ومع ذلك لم تحظ المدينة إلا بالقليل من التنمية أو الاستثمار.ورغم أن كثيرين من زعماء الطوائف في لبنان ينفقون الأموال في مجتمعاتهم لحشد الدعم السياسي، يقول سكان طرابلس إن منطقتهم تعاني من الإهمال رغم ثراء سياسييها.وخلال تجمع للمعزين في منطقة باب الرمل الفقيرة بطرابلس، أعرب كثيرون عن غضبهم إزاء السياسيين المنحدرين من المدينة ومن بينهم رئيس الوزراء اللبناني الملياردير نجيب ميقاتي.وتضيف روان المانع «نحن ببلد ما فيه قيمة للإنسان، نحن عايشين ببلد بس الزعماء بيطلعوا بيشفطوا مصاري وبيحكوا، ويللا عمره الإنسان ما يرجع».وكانت طرابلس، وهي ثاني أكبر مدينة في لبنان بعدد سكان يبلغ نحو نصف مليون نسمة، من أفقر مدن البلاد قبل أن يهوي لبنان في أزمة مالية نتيجة عقود من الفساد وسوء إدارة النُخب الحاكمة.وقال مهند الحاج علي، الباحث في مركز كارنيغي للشرق الأوسط، إن طرابلس لم تشهد أي جهود إنمائية كبيرة منذ الحرب الأهلية التي دارت رحاها بين عامي 1975 و1990 على الرغم من الصعود السياسي لرجال أعمال أثرياء من المدينة.مليارديرات وفقر
جمع ميقاتي الجزء الأكبر من ثروته من أنشطة الاتصالات وصنفته مجلة فوربس رابع أغنى رجل في العالم العربي في عام 2022.وقال مكتب ميقاتي في بيان لرويترز يوم الخميس إنه كان الداعم الأكبر للتنمية الاجتماعية والاقتصادية في طرابلس لأكثر من 40 عاماً، من خلال مؤسساته الخيرية.وأضاف أنه يتفهم المعاناة التي يمر بها أبناء لبنان عامة وطرابلس خاصة بسبب الأزمة.وكان بيت ميقاتي المطل على البحر على مشارف المدينة، والمعروف محلياً باسم «قصر ميقاتي»، نقطة تجمع في السنوات الأخيرة للاحتجاجات الرافضة لفساد الحكومة والمعبرة عن اليأس الاقتصادي.واتهم الادعاء اللبناني ميقاتي في أكتوبر عام 2019 بالإثراء غير المشروع لاستفادته من أموال مخصصة لبرنامج قروض سكنية مدعومة للأسر الفقيرة، وهي اتهامات ينفيها.وقال مكتبه إن الاتهامات لها دوافع سياسية وتهدف لتشويه سمعته، ولفت إلى أن قاضياً آخر أسقط القضية في وقت سابق هذا العام.منطقة مضطربة
في انعكاس لفقدان التواصل بين الناس والسياسيين في طرابلس والاعتقاد بأن شيئاً لن يتغير، صوت ثلاثة فقط بين كل عشرة من سكان المدينة في الانتخابات البرلمانية التي أُجريت في مايو.وتجدر الإشارة إلى أن الشمال كان من أكثر مناطق لبنان اضطراباً منذ نهاية الحرب الأهلية، فقد كانت طرابلس والمناطق المحيطة بها بيئة خصبة لتجنيد المتشددين من الشباب السُنة.وفي الآونة الأخيرة، كانت طرابلس نموذجاً للوضع الأمني المتدهور المرتبط بالانهيار المالي.وأعلن وزير الداخلية بسام مولوي خطة أمنية جديدة بعد تصاعد الجرائم والعنف.وبحسب سكان من مخيم نهر البارد للاجئين الفلسطينيين فإن العشرات ممكن كانوا على متن القارب المنكوب هم من سكان المخيم المترامي الأطراف، كما كان هناك كثير من السوريين، الذين يعيش نحو مليون منهم في لبنان بصفة لاجئين.معدلات الفقر
وأدت الأزمة الاقتصادية إلى ارتفاع هائل في معدلات الفقر.ووفقاً لبيانات الأمم المتحدة فإن 80 بالمئة من سكان لبنان البالغ عددهم زهاء 6.5 مليون نسمة فقراء، ولم تفعل الحكومة شيئاً يُذكر لمعالجة الأزمة التي وصفها البنك الدولي بأنها ركود متعمد «دبرته» النخبة من خلال إحكام قبضتها الاستغلالية على الموارد.وحاولت عدة قوارب أخرى الإبحار من لبنان الأسبوع الماضي، وأنقذت قبرص 477 شخصاً كانوا على متن سفينتين غادرتا لبنان.وتقول مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين إن 3460 شخصاً غادروا لبنان أو حاولوا مغادرته عن طريق البحر منذ بداية هذا العام، أي ما يعادل أكثر من مثلي العدد عام 2021 كاملاً.ومن بين ضحايا القارب الذي كان يحمل ميستو امرأة وأطفالها الأربعة من منطقة عكار بشمال لبنان.وأوضح رئيس بلدية القرقف، التي ينحدرون منها، يحيى الرفاعي أن الوالد كان واحداً من بين عدد قليل من الناحين، ووصف الأزمة بأنها أسوأ من الحرب الأهلية.