بعد مرور سبعة أشهر على بدء الحرب الروسية التي ترافقت حتى الآن مع تحولات غير متوقعة، صَدَم الجيش الأوكراني العالم حين نجح في إخراج القوات الروسية من مساحات في جنوب أوكرانيا وشرقها خلال هجوم مضاد فاعل قبل أيام، فاستعمل الجيش أسلحة طويلة المدى أرسلها الأميركيون إلى أوكرانيا، فدمّر المعاقل اللوجستية ومستودعات الأسلحة الروسية خلال سلسلة من الضربات على مر الصيف، وأضعف بذلك قدرة القوات الروسية على قصف الجنود في كييف عن بُعد وجعلها معرّضة للاعتداءات.لقد انقلب خطاب الحرب رأساً على عقب بعد انهيار الجيش الروسي السريع في وجه الهجوم الأوكراني المفاجئ، فاقتنع عدد كبير من صانعي السياسة الغربية بأن أوكرانيا قد تُحقق انتصاراً استراتيجياً حقيقياً، تزامناً مع دفع بوتين إلى أضعف مكانة سياسية منذ بدء الحرب، بعد تلاحق الانتكاسات العسكرية المحرجة في سجل موسكو.
استناداً إلى مسار الحرب حتى الآن، يقول المحللون إن القوات الأوكرانية قدّمت في آخر هجوم أداءً يفوق توقعاتهم، في حين كان أداء القوات الروسية أسوأ من المتوقع، وعلى عكس الانسحاب الروسي التكتيكي من منطقة كييف في الربيع الماضي، حين حاولت موسكو تركيز جهودها في شرق أوكرانيا، تبعثرت القوات الروسية هذه المرة تحت تأثير التقدم الأوكراني، فترك الجنود وراءهم كميات كبيرة من الدبابات والذخائر. في هذا السياق، يقول بن هودجز، قائد عام سابق للجيش الأميركي في أوروبا: «قدّم الجيش الروسي أداءً سيئاً بطريقة لم أكن أتصورها يوماً، ومن المبكر أن يخطط أحد للاحتفال بانتصاره في هذه الحرب، لكني أظن أن الأوكرانيين يوشكون على اكتساب زخمٍ لا رجعة عنه طالما يتابع الغرب دعمهم».في ظل تلاحق الهزائم في ساحة المعركة وتصاعد الضغوط من القوميين الروس وأصحاب مدونات الحرب المؤثرين، يجد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نفسه اليوم أمام ضغوط متزايدة لتصعيد الصراع بقيادة جيش أصبح في حالة يرثى لها، وفي الوقت نفسه، ينتظر العالم ردة فعل الرئيس الروسي الذي يزداد اضطراباً بعد حشره في الزاوية.يقول دانيال فريد، دبلوماسي أميركي سابق يعمل راهناً في المجلس الأطلسي: «يشير التاريخ الروسي في آخر 200 سنة إلى نزعة القادة الروس إلى مواجهة المشاكل حين يخوضون الحرب ولا يفوزون بها، فبوتين ليس محصّناً ضد هذه القاعدة العامة: الشعب لا يحبذ خسارة الحروب في أي ظرف». في ظل استمرار الهجوم الأوكراني المضاد، لم يعد الرد الروسي اليوم بيد الضباط العسكريين الروس، برأي جاك واتلينغ، باحث مرموق في الحروب البرية في «المعهد الملكي للخدمات المتحدة»، بل إنه يتأثر على الأرجح بالحسابات السياسية التي يقوم بها بوتين.منذ أن أطلقت روسيا الغزو ضد أوكرانيا في شهر فبراير من هذه السنة، لم يتردد كبار المسؤولين في موسكو في التلميح إلى الترسانة النووية الروسية، ومن المتوقع أن يتصاعد هذا النوع من التهديدات بعد الخسائر الأخيرة في ساحة المعركة. لقد خيّم احتمال أن تلجأ روسيا إلى استعمال سلاح نووي تكتيكي (رأس حربي صغير مُصمّم ليتم استعماله في ساحات المعارك) على أجواء الحرب منذ البداية، ومع ذلك، لا يتوقع معظم الخبراء استخدام هذه الأسلحة النووية التكتيكية، لكنهم لا يستبعدون هذا الاحتمال الخطير بالكامل. قد يقرر بوتين أن يتابع الحرب بكل بساطة بالجيش الذي يملكه، لا الجيش الذي يريده، كان وزير الدفاع الأميركي السابق دونالد رامسفيلد قد أطلق توقعاً مماثلاً، بعبارة أخرى، قد يتابع بوتين إرسال الوحدات الروسية التي تعرّضت لضربات قوية وباتت تفتقر إلى المعدات باتجاه القوات الأوكرانية لكبح تقدّمها قدر الإمكان، حتى حلول فصل الشتاء على الأقل، لكن لن تُسهّل هذه الاستراتيجية تحقيق أي انتصار روسي، علماً أن معظم المحللين يُجمِعون على صعوبة انتزاع نصر مماثل في المرحلة المقبلة، لكن قد تكون هذه الخطوة كافية على الأقل لمنع أوكرانيا من تحقيق انتصار شامل هذه السنة.يقول هودجز: «ستجد روسيا صعوبة كبرى في عكس التطورات الراهنة في أوكرانيا، حيث تتعلق أبرز المشاكل التي واجهتها روسيا في آخر ستة أشهر بثقافة البلد وجميع المؤسسات الناشطة، فلا يمكن إصلاح مشاكل الفساد، وضعف الخدمات اللوجستية، وفشل القيادة، ونقص العناصر، عبر الاكتفاء بتغيير القادة».لكن رغم الانتكاسات التي ألحقتها أوكرانيا بخصمها، لا يمكن التأكيد على امتلاك كييف القوات والذخائر الكافية لانتزاع جميع الأراضي الأوكرانية من قبضة الروس، وقد يكون بوتين مقتنعاً بأن الوقت يصبّ في مصلحته إذا تابع محاولات إضعاف الدعم الغربي لأوكرانيا.أعلنت روسيا أنها بصدد قطع صادرات الغاز عن أوروبا بحلول فصل الشتاء، وتهدف هذه الخطوة إلى إضعاف الدعم السياسي الشعبي للحرب في أوروبا والضغط على بعض القادة الأوروبيين لدفع أوكرانيا إلى التفاوض سريعاً لإنهاء الصراع. يقول مايسون كلارك من «معهد دراسة الحرب»: «يبقى كامل فصل الشتاء الورقة الوحيدة التي لم يستعملها بوتين بعد، لقد أصبحنا شبه متأكدين من أن الكرملين ينتظر أن تتّضح آثار الشتاء على الدعم الأوروبي للحرب».يظن بعض الخبراء في الشأن الأوكراني أن بوتين ينوي إطلاق هجوم في الربيع المقبل، إذا نجح في تصعيب الحياة على أوروبا المتعطشة للغاز خلال الشتاء.وتوضح أليونا جيتمانشوك، مؤسِّسة ومديرة «مركز أوروبا الجديد» (منظمة متخصصة بالسياسة الخارجية في كييف): «لا يظن بوتين أن أوروبا أو أوكرانيا ستصمدان بعد هذا الشتاء، فهو يعوّل على ذلك، ويبدو أن هذا التوقع أصبح محور الاستراتيجية التي يطوّرها راهناً، وتصبّ مواقف الروس في الخانة نفسها، وكأنهم يقولون: «سننسحب الآن، لكننا سنعود في الربيع وسيختلف الوضع حينها بالكامل». بدأت مؤشرات الاعتراض تتصاعد منذ الآن في بعض الأماكن، فقد نزل نحو 70 ألف تشيكي إلى الشارع في بداية شهر سبتمبر، ودعوا إلى إنهاء العقوبات على روسيا بسبب تحليق أسعار الطاقة، كذلك، احتجّ رجال الأعمال الإيطاليون على فواتير الكهرباء المرتفعة ولاموا الاتحاد الأوروبي على محنتهم.يقول أحد المساعدين في الكونغرس الأميركي: «يجب التنبه في الوقت الراهن إلى محاولات دفع الأوكرانيين للمشاركة في محادثات سياسية. السيناريو الذي يقلقني هو أن يقرر الروس أنهم يحتاجون إلى إعادة تجميع أنفسهم وتنفس الصعداء لفترة، مما يعني أن يطلقوا المواقف المناسبة لانتزاع بعض المكاسب من الغرب والضغط على الأوكرانيين لجعلهم يوافقون على شكلٍ من وقف إطلاق النار تليه مفاوضات لا نفع منها».كذلك، يشعر بعض المسؤولين الأوروبيين بالقلق من أن يكون أي انتصار أوكراني سيفاً ذا حدّين على مستوى الدعم الذي يتلقاه البلد من قوى أوروبية بارزة مثل فرنسا وألمانيا وإيطاليا، فتضطر تلك العواصم لإقناع كييف بإرساء السلام رغم تفوّقها.أخيراً، يقول دبلوماسي بارز من شرق أوروبا رفض الإفصاح عن هويته لأن منصبه يمنعه من الإدلاء بمواقف علنية: «سيستفيد الأوكرانيون سياسياً من نجاحهم في صدّ الروس، لكن بعد انهيار روسيا في محيط «خاركيف»، أخشى أن يحذّر البعض في الغرب من تداعيات «إهانة» بوتين، فيحاول هذا المعسكر أن يقوّي مواقفه الرافضة لتسليم أسلحة إضافية إلى أوكرانيا خوفاً من تصعيد الوضع وإطلاق رد روسي غير تقليدي».* إيمي ماكينون، روبي غرامر، جاك ديتش
دوليات
أوكرانيا تحشر بوتين في الزاوية... ماذا بعد هذه المرحلة؟
30-09-2022