كان فولوديمير زيلينسكي غائباً عن تاريخ بلده السياسي إلى أن قرر الترشّح لرئاسة أوكرانيا عام 2019، ولم يكن له أي دور في الحدثَين اللذين هزّا ميدان الاستقلال في كييف خلال أول عقدَين من هذا القرن: الثورة البرتقالية التي دفعت المسؤولين عن الانتخابات إلى إلغاء نتيجة مزوّرة بين عامي 2004 و2005، والاشتباكات القاتلة التي أسقطت الرئيس الموالي لروسيا، فيكتور يانوكوفيتش، عام 2014 وأطلقت أول تدخّل عسكري من جانب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، حتى أن زيلينسكي لم يقم بخدمته العسكرية الإلزامية، ولطالما سخر خصومه السياسيون من تهرّبه من واجبه الوطني.هل نتوقع إذاً طرح سيرة ذاتية جديدة عن الرئيس الأوكراني لتفسير تحوّله من كوميدي ناجح وقطب تلفزيوني إلى زعيم يخوض الحرب ويحصد الإشادة في كل مكان؟ حتى أن البعض يذهب إلى حد مقارنته برئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل! لكن لا يلجأ الصحافي الأوكراني سيرهي رودينكو إلى هذا الأسلوب في كتابه Zelensky: A Biography (زيلينسكي: السيرة الذاتية). يتألف هذا الكتاب من 200 صفحة، وقد صدر باللغة الأوكرانية في السنة الماضية، أي قبل بدء الغزو الروسي في فبراير، حيث أضاف الكاتب بضعة مشاهد إلى النسخة الصادرة حديثاً باللغة الإنكليزية لتصوير زيلينسكي كزعيم في زمن الحرب: ثمة صورة له في مدينة «بوتشا»، وأخرى خلال الساعات الأولى للحرب، لكن لا تشكّل هذه المشاهد إضافة قيّمة أو مؤثرة.
يطرح رودينكو نبذة عن زيلينسكي خلال أول سنتين له في السلطة، حين بدا عهده الرئاسي مشابهاً لموسم جديد من مسلسله التلفزيوني الشهير، Servant of the People (خادم الشعب). بعبارة أخرى، كانت تلك الفترة متهورة وفوضوية، حيث قدّم زيلينسكي، الممثل، دور أستاذ مدرسة يصبح رئيساً للبلاد في ظروف غير متوقعة، وعلى أرض الواقع، أعطى الرئيس اسم مسلسله لحزبه السياسي.كان أول تحد في مسيرته السياسية يتعلق بإقناع الناس بجدّيته، فأطلق زيلينسكي حملته تحت شعار «أنا لا أمزح»، وشمل برنامجه الانتخابي وعوداً بمكافحة الفساد، إلى جانب شعار «الوسطية الأوكرانية»، لكن سرعان ما تبيّن أنه مصطلح فارغ المضمون بشكل عام، وخلال مناظرة تلفزيونية، وجّه زيلينسكي أصابع الاتهام إلى الرئيس بيترو بوروشينكو، «ملك الشوكولا» في أوكرانيا، واعتبر نفسه بمنزلة «حُكْم» صادر ضد الرئيس السابق.يكتب رودينكو أن أحداً لم يكن يتوقع أن يحصل زيلينسكي على فرصة حقيقية لبلوغ سدة الرئاسة، ولا حتى عدد من أقرب مستشاريه في المرحلة الأولى، ويذكر خبير الاستراتيجيات السياسية الأوكراني، سيرهي هايداي، في الكتاب: «لقد ظنوا أن ذلك الاحتمال مستحيل وأن فولوديمير يتسلى بكل بساطة، ثم زاد ارتباكهم حين حقق الفوز، فلم يعرفوا حينها ما يجب فعله لأنهم أدركوا حجم مسؤولياتهم المستجدة وفهموا أن حياتهم القديمة انتهت».ترافق انتصار زيلينسكي مع ظهور وجوه جديدة في السياسة الأوكرانية، وفاز مصورو أعراس وأصحاب مطاعم بمقاعد في المجلس، وسرعان ما اتّضح أن زيلينسكي لا يحمل أيديولوجيا محددة ويفتقر إلى خطة مركزية لحُكم البلد، وعلى غرار الشخصية التي قدّمها في مسلسله التلفزيوني، قرر تعيين عدد من أقرب أصدقائه في مناصب عليا على أرض الواقع أيضاً، حتى أن البعض قُبِض عليه وهو يطلب رشوة، وشوهد نائب جديد وهو يتصفح تطبيقاً للمواعدة أثناء التصويت.يقول هايداي: «كان على زيلينسكي أن يفهم سريعاً حقيقة المنصب الذي وصل إليه كي تظهر نسخة مختلفة منه، وأظن أنه لا يفهم حتى الآن طريقة عمل السلطة، ليس على المستوى المحلي ولا المركزي، فقد أصبح رهينة نموذجية للنظام».وفي إشارة إلى شخصية زيلينسكي في مسلسله التلفزيوني، يضيف هايداي: «لم تعد شخصية [فاسيل] هولوبورودكو موجودة، ولم يبقَ إلا زيلينسكي الذي يفرض عليه النظام الإجراءات المتّبعة، والقواعد المعمول بها، والخطوات المفروضة عليه».لاحق السلوك المتخبط الذي تكلم عنه رودينكو الرئيس زيلينسكي على الساحة الدولية أيضاً، فبدا مذهولاً خلال مؤتمر صحافي، في سبتمبر 2019، حين سعى الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب إلى تبرئة نفسه من محاولات دفع الرئيس الأوكراني للتحقيق بتعاملات عائلة بايدن في أوكرانيا. (أدى قرار ترامب تعليق المساعدات العسكرية الأميركية إلى أوكرانيا خلال تلك الأزمة إلى إطلاق أول حملة لعزله).على صعيد آخر، كان زيلينسكي يظن أنه يستطيع التعامل مع بوتين عبر تبادلات دبلوماسية مباشرة (في البداية على الأقل)، وكان جزء كبير من الأوكرانيين لا يعتبره مؤهلاً لحُكم البلد في استطلاعات الرأي الرئاسية قبيل الغزو الروسي.يعكس كتاب رودينكو فترة زمنية محدودة، ولا يمكن اعتباره عملاً متكاملاً بما أن مستقبل أوكرانيا لا يزال على المحك في ساحة المعركة، ولا شك أن مسيرة زيلينسكي السياسية، بدءاً من المرحلة الأولية الهادئة وصولاً إلى إقالة عدد من كبار حلفائه، أثّرت على حسّه القيادي في زمن الحرب. في وقتٍ سابق من هذا الصيف، أقال زيلينسكي رئيس الاستخبارات، وهو صديق طفولته، والمدعي العام الأعلى في أوكرانيا، وهو حليفه في حملته الانتخابية، كذلك، تلاشى مصرف «بريفات بنك» الذي يملكه إيهور كولومويسكي، الأوليغارشي الذي شارك في زيادة شعبية زيلينسكي في بداية مسيرته، بعد قرار تأميمه.لكن يفتقر الكتاب للأسف إلى أي تفاصيل حول حالة زيلينسكي النفسية خلال الأشهر والأسابيع التي سبقت الحرب، لا سيما حين دعا إلى الحفاظ على الهدوء واعترض على توقعات الاستخبارات الأميركية التي تحذر من حصول غزو وشيك، أو عندما سافر إلى «مؤتمر ميونيخ للأمن»، قبل أيام قليلة على تدفق القوات الروسية نحو الحدود، فسأله الصحافيون صراحةً عن نيّته العودة إلى أوكرانيا. في الليلة الثانية للهجوم الروسي، خرج زيلينسكي من قصر «ماريانسكي»، رغم احتمال تعرّضه لمحاولات اغتيال من الجانب الروسي، لإخبار العالم بأنه لا يزال في أوكرانيا، ولا شك أن السِيَر المستقبلية ستشمل الأحداث المحيطة بتلك اللحظة ولحظات أخرى كثيرة.يكتب رودينكو في الصفحات الأولى من كتابه: «بدءاً من 24 فبراير 2022... اكتشفنا نسخة مختلفة بالكامل من زيلينسكي، إنه رجل لم يتردد في قبول تحدّي بوتين، فأصبح زعيماً للمقاومة الشعبية في وجه العدوان الروسي. إنه الرئيس الذي نجح في توحيد مناصريه وخصومه في هذه المعركة، وجَمَع بين المسؤولين الفاسدين ومحاربي الفساد، وبين الكبار والصغار، ووحّد الناس من جميع الجنسيات والمعتقدات، إنه رئيس الدولة الذي يُقابَل بالتصفيق في البرلمانات الأوروبية والكونغرس الأميركي». لكن رغم هذه الإنجازات كلها، فلا مفر من التساؤل عن العوامل التي أوصلته إلى هذه المكانة.* جاك ديتش
دوليات
مسيرة زيلينسكي من كوميدي إلى زعيم عالمي
30-09-2022