السياسة كفن التفاهة
السياسة هنا ليست فن الممكن، هي فن الردح والنبش في حياة الأشخاص العامين حتى تتسابق جماعات عريضة من المجتمع يتجرعون من كؤوس الملل النفسي والاجتماعي فيصبوا إحباطهم وتفاهاتهم عبر رسائل التواصل الاجتماعي لتصل إلى الآخرين، كل واحد منهم يشعر بأهميته حين يتداول بحماس خبراً قديماً خاوياً من المعنى، منبعه جلسات شاي الضحى أو رسالة واتساب ضحلة، وينسى عندها أبطال الفراغ أن هذا العالم الافتراضي وهمي وكاذب ولا يقوم مقام الحقيقة ولا يخلق علاقات إنسانية جدية.هذه كانت حالتنا في الأيام الماضية، حين اشتدت حرارة الانتخابات، فأخذ ما يسمى اليوم «الذباب الإلكتروني» يحوم فوق رؤوسنا بطنينه المزعج، ويزيد من انتشار أوبئة الجهل بين الناس. خذوا مثلاً بسيطاً، النائب محمد هايف وهو صاحب رؤية دينية محافظة ومتشددة عبر عنها بالماضي بأطروحات لا يمكن هضمها في عالم الحداثة، إلا أن محمد هايف أظهر في أكثر من مناسبة حساً إنسانياً مرهفاً في قضايا معينة مثل حقوق البدون والعفو السياسي، هذا النائب قبل أن يحلف في قاعة عبدالله السالم نسب إليه زوراً تصريح يهدد فيه وزير المالية بالمساءلة السياسية إذا صرح لمشروع ترفيهي، وتم تداول هذا الخبر كحقيقة تهز الكون!أيضاً بعض الناطقين باسم الليبرالية المشوهة أخذوا يسكبون الدموع الساخنة على فوز مرشحين سلفيين، وعبروا بسخط عن عدم تمكن بعض الأفراد الذين تم تصويرهم كنسخ جينية من توماس جيفرسون وهوبز وفولتير، وغيرهم من أعمدة الدولة المدنية، بينما لم يكن لدينا حقيقة صاحب فكر ليبرالي تقدمي طرح نفسه في الانتخابات، هؤلاء الندابون «ليبرتيرين» الدولة الريعية كانوا في كثير من الأحوال مثل القراد الملتصق بضرع أهل السلطة السياسية وأصحاب المال الممتد، وكانت مواقف هؤلاء من مدعي الليبرالية في عدد من قضايا حقوق الإنسان أكثر من مخجلة، وهمهم الأكبر محصور في السخط على أبناء القبائل ورفض سياسات التجنيس برمتها، ويرون الآخرين هم سبب بلاء الدولة....
من مقال في «نيويوركر»، كتب آدم غوبنك هذه الفقرة: «... لكن أعظم خدمة للسياسة ليست هي بين الناس الذين لديهم نفس الآراء، إنما تكون عندما تختلف وجهات نظرهم، السياسة هي جعل أفكارنا تتشاجر بدلاً من أشخاصنا... الديموقراطية عندما يسير الناس في واشنطن ويتجمعون في الحدائق ويشعرون بأنهم وجدوا هدفاً مشتركاً، تمارس السياسة عندما يتحول الصراخ إلى مبادلة، كانت السياسة (في إنكلترا القرن التاسع عشر) هي حصول دزرائيلي رئيس الوزراء على صوت واحد في الحزب الليبرالي، ليقدم هذا برنامجه لإصلاح النظام الديموقراطي من أجل الطبقة العاملة، السياسة هي أن مانديلا عقد صفقة مع دي كلارك لاحترام الأقلية البيضاء مقابل الانتقال السلمي للسلطة في جنوب إفريقيا...». تلك كانت السياسة... ما لدينا ليس سياسة... هو تفاهة.