أصبحت بيني وونغ وزيرة خارجية أستراليا، وانتُخِبت حكومة جديدة بقيادة «حزب العمال» في شهر مايو من هذه السنة، وخلال سلسلة من الخطابات اللافتة، تكلمت وونغ عن رغبتها في تغيير النظرة التي يحملها العالم عن أستراليا، وتحوّل الأستراليين إلى «أكثر من مجرّد داعمين في المشهد الجيوسياسي العالمي الدراماتيكي».لا يتعلق هذا التحول اللافت بأهداف أستراليا الخارجية، إذ يلتزم الحزبان الأساسيان فيها بدعم النظام المبني على قواعد محددة منذ عقود، كذلك لم تصبح أهمية تحالف أستراليا مع الولايات المتحدة موضع شك، بل تريد وونغ أن تضيف مجموعة جديدة من النشاطات المكثفة.
لم تمرّ إلا أربعة أشهر على تعيين وونغ في الحكومة الجديدة، لكن سبق أن أشرفت على زيادة استثنائية في الالتزامات الدولية، حيث قصد رئيس الوزراء الأسترالي الجديد، أنتوني ألبانيز، طوكيو بعد يوم على تنصيبه، برفقة وونغ، لحضور قمة التحالف الرباعي، ثم زار ألبانيز أندونيسيا للمرة الأولى بصفته رئيس الحكومة، وفي الوقت نفسه، قامت وونغ بأربع رحلات منفصلة إلى منطقة المحيط الهادئ (فيجي، وساموا وتونغا، ونيوزيلندا، وجزر سليمان، وقمة منتدى جزر المحيط الهادئ في شهر يوليو)، خلال أول مئة يوم بعد توليها منصبها، بالإضافة إلى ثلاث رحلات إلى جنوب شرق آسيا (فيتنام، وماليزيا، ثم سنغافورة وأندونيسيا مرتَين).تستعمل وونغ خلفيتها الخاصة لإقناع الآخرين بمقاربتها، فتستبق فكرة لا تزال شائعة حول اعتبار أستراليا بؤرة استعمارية عنصرية لأصحاب البشرة البيضاء، فبرأيها، حان الوقت للتخلي عن تأييد أستراليا للعالم الأنغلوفوني لأن «السياسة الخارجية تبدأ بالتعبير عن حقيقتنا، كانت أستراليا تشمل 270 سلالة، بما في ذلك أقدم ثقافة مستمرة في العالم، وهذا ما يمنحنا القدرة على التواصل مع جميع الأطراف الدولية انطلاقاً من قواسمنا المشتركة معها».تبدو أجندة وزيرة الخارجية الأسترالية طموحة، فهي تأمل إيجاد مصالح مشتركة مع القوى الصغيرة والمتوسطة في جوار بلدها لتسهيل إنشاء «منطقة سلمية ومزدهرة وقائمة على احترام السيادة»، كما تريد وونغ في نهاية المطاف أن تُمهد هذه الظروف لتحديد تصرفات القوى العظمى حول العالم، وعلى رأسها الصين والولايات المتحدة، فهي تعتبر أستراليا جزءاً من «لعبة النفوذ»، ويُفترض برأيها أن يستعمل البلد جميع أدوات الدولة للتعامل مع أخطر الاضطرابات في تاريخه الحديث.كانت الحكومة السابقة تتصرف وكأن الاختيار بين الولايات المتحدة والصين محسوم، واعتبر الكثيرون اتفاق «أوكوس» عام 2021 (عقدت بموجبه أستراليا والولايات المتحدة وبريطانيا شراكة في قطاع التكنولوجيا الدفاعية، وكانت الغواصات العاملة بالطاقة النووية محور الاتفاق) تأكيداً على ربط مستقبل الدفاع في أستراليا بالطموحات الأميركية الرامية إلى كبح التوسّع الصيني.لكن في ظل تصاعد المخاطر الجيوستراتيجية اليوم، سيمرّ أكثر من عقد كامل قبل أن تنتشر الغواصات الجديدة في المياه، حتى أن بعض المحللين لا يتوقع حصول ذلك يوماً.صرّحت وونغ للمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في سنغافورة أنها ليست أول وزيرة خارجية تعترف بأهمية العلاقات مع جنوب شرق آسيا، لكنها «أول وزيرة خارجية أسترالية من جنوب شرق آسيا تدلي بهذا النوع من التصريحات»، وأكدت وونغ منذ وصولها إلى السلطة على أنها تعطي الأولوية لهذه المنطقة بالذات.في السنوات الأخيرة، تأخرت أستراليا في تطبيق سياسة التغير المناخي وخسرت مصداقيتها أمام جزر المحيط الهادئ، إذ تعتبر تلك الجزر ارتفاع مستوى البحر مسألة وجودية، وهي أهم من المنافسة بين القوى العظمى برأيها، فقد انتُخِبت حكومة ألبانيز بناءً على سياسة تحمل تحركات مناخية أكثر طموحاً وتلتزم بالحد من الانبعاثات بنسبة 43% على الأقل بحلول عام 2030، مقارنةً بالمستويات المسجلة في عام 2005، تمهيداً لبلوغ انبعاثات صفرية بحلول عام 2050.اعترفت وونغ خلال منتدى التغير المناخي بأن أستراليا «أهملت مسؤوليتها... فلم تحترم دول المحيط الهادئ في نضالها للتكيّف مع هذا التهديد الوجودي» في عهد الحكومة السابقة. ثم تعهدت بتغيير هذا الوضع مع نشوء الشراكة المناخية بين أستراليا وجزر المحيط الهادئ لدعم البنى التحتية المرتبطة بالمناخ ومشاريع الطاقة في دول المحيط الهادئ وتيمور الشرقية، وفي غضون ذلك، حصدت وونغ دعم قادة من أستراليا وجزر المحيط الهادئ لطرح اقتراح يقضي بالمشاركة في استضافة قمة الأمم المتحدة للتغير المناخي في عام 2024.تتماشى هذه المقاربة مع دبلوماسية «الإصغاء أولاً»، وقد وصفتها وونغ في الماضي بلقاء الآخرين بغض النظر عن موقفهم بدل جرّهم إلى مكان آخر، لكن لا يسهل تطبيق هذا النهج، حيث تتابع جزر المحيط الهادئ حث حكومة ألبانيز على تكثيف تحركاتها في ملف التغير المناخي مثلاً. في ما يخص دول جنوب شرق آسيا، أصبحت المنتديات الإقليمية القائمة أكثر قوة واستقراراً، وشددت وونغ على أهمية رابطة أمم جنوب شرق آسيا، وهي مجموعة اعتبرها وزير الخارجية الأسترالي السابق، كيفن راد، «قوة راجحة» في المعركة على فرض الهيمنة بين الصين والولايات المتحدة، وفي هذا السياق، قالت وونغ حين كانت في معسكر المعارضة: «لقد أوضحت دول جنوب شرق آسيا أنها لا تريد أن تختار بين القوتين، لكنها ترغب في استعمال قوتها الخاصة للمشاركة في إعادة رسم معالم المنطقة».في شهر يونيو، عادت وونغ إلى كوتا كينابالو، عاصمة إقليم صباح الماليزي، في زيارة إعلامية مقصودة، وتصورت مع عائلتها الماليزية وتناولت كرات السمك والنودلز في المقهى الذي كانت تحبه في طفولتها. كانت رسالتها واضحة: هذه هي قصتها الشخصية، لكنها تعكس أيضاً قصة أستراليا المعاصرة.وفي كوالالمبور، اعتبرت وونغ رابطة أمم جنوب شرق آسيا «محور منطقة المحيطين الهندي والهادئ»، فقالت إن قوة هذه الرابطة «تكمن في قدرتها على التعبير عن المنطقة وإقامة التوازن بين القوى الإقليمية». إنه السياق الذي تستعمله وونغ كي تدعو المنتديات الإقليمية في آسيا والمحيط الهادئ إلى استخدام قوتها لإيجاد «نقطة التقاء» بين الولايات المتحدة والصين.هي عبّرت عن هذا المفهوم للمرة الأولى في سبتمبر 2019، حين كانت جزءاً من المعارضة، خلال خطاب ألقته في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في جاكارتا، فقالت إن القيادة الأميركية «ستزيد فاعليتها حين تقود مجموعة من الأمم بجميع أعضائها». يجب أن تعترف بكين بدورها بأن «معظم دول المنطقة لا تحبذ الصين الاستبدادية التي بدأت تتحول إلى قوة غالبة». برأي وونغ، لن تتمكن الولايات المتحدة ولا الصين من فرض هيمنتها بطريقة مطلقة، بل يجب أن يستعد كل طرف للتعايش مع الطرف الآخر باعتباره قوة عظمى».أضافت وونغ أن نقطة الالتقاء «تعني أن تتقبل الولايات المتحدة مستقبلاً متعدد الأطراف، فتكتسب بلدان مثل أندونيسيا، والهند، واليابان، أدواراً قيادية متزايدة في المنطقة»، وكررت وونغ تلك الأفكار في خطابات متعددة منذ ذلك الحين، مع أن أسلوبها أصبح أكثر سلاسة منذ وصولها إلى السلطة، فهي تذكر حتى الآن «نقطة الالتقاء» بين الطرفين، لكنها زادت تركيزها على «التوازن الاستراتيجي».بما أن نتائج استطلاعات الرأي في أستراليا تشير إلى زيادة شعبية حكومة ألبانيز منذ فوزها في الانتخابات، فمن المتوقع أن تحصل وونغ على سنتين أو ثلاث سنوات على الأقل لتطوير مقاربتها في مجال السياسة الخارجية، لكن إلى أي حد يمكن اعتبارها قابلة للتنفيذ؟في ظل الخطابات العدائية المتبادلة اليوم، قد تبدو الفرضية القائلة إن القوى المتوسطة تتمتع بالنفوذ الذي تبحث عنه وونغ تفاؤلية أكثر من اللزوم، إذ يشكك جزء من محللي السياسة الخارجية في أستراليا بالتزامات الولايات المتحدة إقليمياً، مما يعني احتمال أن تستنتج واشنطن أن مصالحها لا ترتبط بهذه المنطقة، فتغادر وتتقبّل تحوّلها إلى جزء من نطاق النفوذ الصيني.في هذا السياق، يقول المحلل هيو وايت إن المعركة انتهت أصلاً وفازت بها الصين، وهو يدعو أستراليا إلى حث الولايات المتحدة على تسليم تايوان إلى بكين، قبل أن تبدأ المحادثات مع الصين حول دورها داخل النظام الطاغي الجديد.على صعيد آخر، يظن محللو السياسة الخارجية أن أستراليا تستطيع التأثير على الولايات المتحدة، ويكتب مايكل غرين، المدير التنفيذي في مركز دراسات الولايات المتحدة في جامعة سيدني: «يبقى المجتمع الاستراتيجي المعني بسياسة آسيا في العاصمة واشنطن صغيراً جداً... وهو سريع التقلّب... إذا طُرِحت أفكار جيدة من شركاء جديرين بالثقة مثل أستراليا، فقد تصل الاقتراحات إلى أعلى المراتب».إذا نجحت وونغ في مساعيها، فلن يقتصر خيار أستراليا (بين حليفتها وشريكتها التجارية) على هذين الطرفَين، بل سيحصل البلد على الصلاحيات التي يطالب بها في المنطقة، فيبقى متحالفاً مع الولايات المتحدة لكن من دون أن يحذو حذوها في جميع المسائل بالضرورة، كذلك ستغيّر أستراليا بهذه الطريقة نظرة الآخرين إليها ونظرتها إلى نفسها أيضاً، وستشارك في توجيه قرارات المنتديات الإقليمية والقوى العظمى العالمية في آن، حتى أن وونغ قد تسهم حينها في تجنب الحرب.
دوليات
بيني وونغ: دور أستراليا لا يقتصر على دعم الآخرين
07-10-2022