عندما انطلقت عبارة «الإسلام هو الحل» منذ سنوات طويلة كحل لأزماتنا ومشاكلنا الدنيوية، لم يكن ثمة تثريب عليها، أو مآخذ تؤخذ، فقد كان تفسيري البسيط لهذه المقولة أنها دعوة إلى العودة إلى مكارم الأخلاق، التي حفل بها الإسلام والديانات السماوية الأخرى، الصدق والأمانة والشجاعة والنخوة، والبر والتراحم، وقد قال الرسول- صلى الله عليه وسلم: «إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق».

وعودة الى القيم الإسلامية الرفيعة في الإخاء والعدل والمساواة، في تعاملنا مع بعضنا، فق، وحرية الفكر والرأي التي نزلت بها عشرات من آيات القرآن الكريم، التي دعا الله فيها عباده إلى التفكر والتقدير والتعقل فيما يحيط بهم من مظاهر الكون ومعجزاته، وقد رفع الله سبع سموات من غير عمد، وتعاقب النهار والليل، وغير ذلك من آيات الكون.

Ad

وظللت على هذه الحال سنوات طويلة، أحسن الظن بهذه المقولة «إن الإسلام هو الحل»، وبالقائلين بها، إلى أن تكشف لي أن هذه العبارة الساحرة التي يتلفظ بها العديد من الناس، قد أصبح بعضهم يستخدمها لرفض الآخر، ورفض الثورة العلمية التي تفجرت في عالمنا المعاصر، واعتبار الحل الإسلامي هو الخيار الوحيد، وأن غيره من حلول علمية الذي كان سبب نهضة غيرنا من الأمم هو زندقة وهرطقة، كما كان يفعل رجال الكنيسة في ظلام العصور الوسطى، وكما فعلناها نحن قبلهم بقرون، مع فيلسوف ورائد الحركة التنويرية الإسلامية ابن رشد سنة 1111م، عندما تم إحراق كتبه ونفيه بأمر من خليفة المسلمين لاتهامه بالزندقة.

الإسلام هو الحل

«الإسلام هو الحل» هذه العبارة الساحرة التي تدق بها ولها قلوب الكثيرين وأفئدتهم، ماذا يعني بها من استخدموها في غير سياقها، حتى نستطيع إخراجها من دائرة التعصب والعنف، المضروبة حولها، والمخنوقة بها، في هذا العالم الساخر بالقيم والمقاييس وتفهم هذه الحقيقة، وقد أضفى عليها أربابها قداسة ليست لها وجعلوها قضية إيمانية، لا يكتمل الإيمان إلا بها، وهي من صنع بشر يصيبون ويخطئون، وقد تعطى هذه القداسة المزعومة لها لطاغية أن يحكم باسم الإسلام، وحكمه مطموس بالظلم، وكم من طاغية طغى وبغى وتكبر وتجبر باسم الإسلام، وليس بعيدا عنا الحكم العثماني، والثورة العربية الكبرى التي قادها الشريف حسين، ضد هذا الحكم في مرحلة احتضاره، والانقلاب على هذا الحكم من داخله في عقر داره والذي قاده كمال أتاتورك، والذي كانت ردة فعله الخصام مع كل ما يمتّ بصلة الى الإسلام.

الحلول الإسلامية

وقد صادفني في دراستي للثورة الإسلامية، كتاب قيّم لعالم جليل راحل هو د. محمد عمارة، أجل قدره وعلمه، رغم اختلافي معه في كثير من آرائه التي دونها في كتابه تحت عنوان «هل الإسلام هو الحل؟ لماذا وكيف؟»، لأحلل هذه الآراء، بعيدا عن تشدد المتشددين والمتزمتين، الذين يرددون هذه العباره، لأن مدلولها اللفظي (الإسلام) ورنينه له سحره وتأثيره في نفوس الناس.

وفي التمهيد الذي استهل به المؤلف آراءه، وتحت عنوان: المشكلة... والحلول كتب يقول إن أمتنا بمجتمعاتها الكثيرة، تعيش مشكلة لا تتمثل في «فقر الإمكانات» المادية والروحية، إنما في الافتقار إلى النظام الأقدر على توظيف وإعمال واستثمار ما لديها من إمكانات.

ويستطرد المؤلف، بعد عرض إمكانات الأمة الإسلامية وثرواتها المادية والبشرية الى تساؤل عن نوعية وماهية الحل المناسب لهذه المشكلة؟ الحل المعقول والمقبول من الأمة؟ والأفعل في تحويل موات واقعها الراهن، الى نهوض حي يبوئها مكانتها الطبيعية بين الأمم والحضارات؟

ولا يجد إجابة عن هذه الأسئلة سوى الحلول الإسلامية لمشكلاتنا الدنيوية، ليس باعتبارها خيارا، بل باعتبارها سنّة من سنن الله في مسيرتنا الحضارية، وفي معالجة التراجع الحضاري في هذه المسيرة، فالحلول الإسلامية فرائض إسلامية وتكاليف إلهية وواجبات شرعية، لا يكتمل إيمان المسلم– في رأيه- إلا بها.

الاجتهاد الإسلامي

وفي هذا السياق، في الباب الأول الذي أفرده مؤلفنا د.عمارة للحياة العقلية، وتحت عنوان (3- الاجتهاد الإسلامي... والعقلانية المؤمنة) يعرف الفقيه الراحل الاجتهاد الإسلامي بأنه «استفراغ الفقيه الواسع لتحصيل ظن بحكم شرعي»، ويعدد شروط المجتهد بالفهم والتقدير لآيات الأحكام في القرآن، بإدراك أسرار التركيب القرآني، والعلم بناسخه ومنسوخه وعامه وخاصه ومطلقه ومقيده، وكذلك فقه السنّة وعلومها، رواية ودراية سنداً ومتناً، والمعرفة بأصول الفقه.. واجتهادات الأئمة ووسائل الاجتهاد والقياس، ومقاصد الشريعة على النحو الذي يكون ملكة الاجتهاد لدى المجتهد فيقصر العالم الجليل- بهذه الحلول- الحلول الإسلامية على أهل الاجتهاد في العلوم الشرعية دون سائر العلوم الكونية على كل المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

خلاصة القول إن هناك دعامتين تقوم عليهما الحلول الإسلامية لدى المؤلف لنفض غبار التخلف الحضاري عنا والنهوض بأمتنا لتتبوأ مكانها اللائق بها وبأمجادها وهما:

1- الحلول الإسلامية قضية إيمانية باعتبارها فريضة إسلامية وتكليفاً إلهياً وواجباً شرعياً.

2- إن من يقومون بتقنين فقهها وتشريعها هم أهل الاجتهاد المتفقهون في العلوم الشرعية.

وفي الرد على هذا القول نسوق الحقائق التالية:

الحقيقة الأولى: لا كهانة في الإسلام

وبادئ ذي بدء، فإنني لا أستطيع أن أكتم خشيتي من أن يعيد التاريخ نفسه، وأن نعود إلى ما كانت عليه أوروبا في العصور الوسطى من ظلام.

لقد كان سبب تخلف أوروبا في العصور الوسطى ودياجير الظلام التي عاشتها فيها هو القيود التي فرضتها الكنيسة على العلماء في هذا العصر في أفكارهم ومؤلفاتهم عن الكون ونظامه، فكانت الكنيسة تمنع نشر أي مؤلف يخالف عقيدتها في نظام الكون (النظام الكنسي) والذي كانت تعتبره الكنيسة مقننا في الكتاب المقدس، لا يجوز الاقتراب منه أو المساس به.

وقد حكمت المحكمة الكنسية العليا بإعدام العالم جوردانو برونو سنة 1600م حرقا، عندما قرر أن مركز العالم يقع في نقطة داخل الكون، ومنعت كتاب كوبرنيكوس عن نظام الكون من التداول.

وكان العالم غاليليو، قد عين في 1611 في منصب الرياضي والفيلسوف الأول في قصر دوق توسكانا، تقديراً لعلمه واكتشافاته، وقد حصل غاليليو على إذن من صديقه البابا أوربان الثامن عام 1624م بنشر كتابه الشهير «حوار حول نظامي العالم الرئيسين»، وهما النظام الكنسي المحافظ، والنظام الكوبرنيكي الحديث، شريطة ألا ينحاز الى أي النظامين، إلا أن أمانته العلمية حالت دون ذلك، فاتهمته الكنيسة بالهرطقة، لأنه انحاز إلى النظام آخر، في هذا المؤلف الذي نشر في هولندا عام 1632م حيث تمت محاكمته أمام الكنيسة العليا في روما.

ولم يكن أمام من يمثل أمام هذه المحكمة إلا أن يقر بما اتهم به، لأن المحكمة كان من سلطتها اللجوء الى التعذيب للحصول على إجابه واضحة عن أسئلتها، وبعد حوار طويل بين رئيس المحكمة وبين غاليليو، وحتى ينقذ رقبته من سيف الجلاد، أقر أمام المحكمة، أنه عاد إلى كتابه فقرأه بتعمق أكثر، واقتنع بالنظام الكنسي الذي يقول إن الأرض ثابتة لا تتحرك.

وتنتهى المحاكمة في شهر يونيو 1633م، وكانت قد بدأت قبل ذلك بشهرين، بعد أن كان قد مُنع من تدريس نظريته بأمر من الكنيسة، ويصدر الحكم، مسببا برفض النظريات العلمية التي تقول إن الشمس مركز العالم، والنظرية التي تقول إن الأرض تدور حول الشمس، ورفض القول الذي قاله غاليليو بأن المسألة غير محسومة لأنها محسومة في الكتاب المقدس، ولا تقبل أي تأويل أو تفسير آخر.

ويختم رئيس المحكمة قراءة الحكم ببراءة غاليليو مما اقترف من أخطاء وما ارتكب من انحرافات شرط أن يعلن وبصوت عال أنه يلعن هذه النظريات وتلك الآراء ويعتبرها هرطقة ومخالفة للكنيسة الكاثوليكية، ويعلن غاليليو العجوز- الذي بلغ سن الثانية والسبعين- بقلب مخلص وإيمان عميق أنه يلعن ويحتقر كل خطأ وكل هرطقة ضد الكنيسة، ويقسم بعدم الإقدام في المستقبل على تأكيد أمر مشين بما ورد في الكتب المقدسة.

وقد دفع ابن رشد قبل جوردانو وكوبرنيكوس وغاليليو وغيرهما بقرون ثمنا غاليا لأفكاره التنويرية، عندما أمر خليفة المسلمين بإحراق كتبه ونفيه، بسبب اتهام بعض المسلمين له بالزندقة، وبسبب فكره التنويري، وبالرغم من أن الخليفة عفا عنه بعد ذلك، فإنه توفي بعد فترة قصيرة، من هول الصدمة التي أصابته.

وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.

● المستشار شفيق إمام