الفكاهة تسليةٌ مجانيةٌ للعقل، تريحنا من سلسلة الأفكار الروتينية، وتخفّف من استبدادها، وتمنعنا من أن نصبح عبيدًا لها.

(جوناثان ميلر)

Ad

وَجِدِّي مُنْتَهَى هَزْلِي

إِذَا لَمْ يُدْرِكُوا قَصْدِي

كان خالد سعود الزيد (1937 – 2001) ذا شخصيةٍ جادةٍ اصطبغت بها حياته العملية والأدبية، وتجلّت في صرامته وصلابته اللتين جابه بهما المعارك الأدبية والتاريخية في الفضاء الثقافي؛ ومع ذلك كان ذا روحٍ فَكِهَةٍ ينكشف عنها النقاب حين يكون مع أحبابه المقربين، ومُريديه الصادقين، فلا ينفكّ يتحفهم بما تزخر به روحه المرحة من طرائف التعبير وغرائب التصوير، وعندها يجد جلّاسه أنفسهم تحت سلطانَين؛ سلطان الضحكة البريئة التي يستنبطها الزيد من نفوسهم، وسلطان الفكرة الجليلة التي يُجليها لعقولهم.

وقد أكرمني الله بأن أكون من رعايا السلطانَين بما قيَّضه لي من نعيم كوني من خاصّته وأحبابه، وهذا ما خوّلني الاطلاع على الوجه المرح المستتر بشخصيته الصارمة، وأحسب أن وجه المرح يمدُّ وجه الصرامة بأسباب البقاء والثبات، فالضحك يخفّف أعباء الجِد، وينعش الروح التعبة، ويريح العقل، ويؤلّف بين القلوب، فتتهيّأ النفس بذلك لأعباء الحياة الجادة، وتستعدّ لمعارك الفكر والثقافة.

لقد نشأت الروح الفَكِهَةُ في شخصية الزيد منذ صغره، ويظهر ذلك في تمثُّله شخصية عنترة بن شداد التي قرأها في السيرة الشعبية، فكانت من أسباب ظهور شيطنته البريئة، حين برز بين أترابه رافعًا عقيرته بشعر عنترة، شاقًّا صفوفهم، ومزاحمًا إيّاهم بمنكبه، صارخًا فيهم صراخ ابن شداد في أعدائه، وقد سجّل تلك اللحظات في محاضرته «تجربتي مع الشعر»، حيث قال: «حتى إذا ما انفعلت، ضربت صفوفهم يمنة ويسرة كما يصنع عنترة بصفوف الأعداء، غير شاعر بما يصيبني منهم من أذى، أو شجوج في رأسي، وكدمات على وجهي»، وهذا المشهد لا يخلو من الفكاهة التي تنتجها حركات الزيد الجسدية، مصحوبة بأقواله اللفظية شعرًا ونثرًا.

وقد كانت تلك الروح تتحين الفرص لتظهر نفسها أثناء إلقائه قصائده المنظومة في المرحلة الثانوية، فعلى جدية موضوعاتها، إلّا أن إلقاءه لم يخلُ من عبارات وإشارات طريفة، كما حدث حين ألقى قصيدته في قاعة مسرح ثانوية الشويخ عام 1954 بمناسبة المولد النبوي الشريف، ووصل في قصيدته إلى قوله:

فَدَهَتْهُ دَاهِيَةٌ وَلَيْسَتْ فَيْلَقًا

لَكِنَّ طَيْرَ اللهِ أَمْسَى فَيْلَقَا

إذ يقول الزيد، يرحمه الله: «وما كدت أنتهي من هذا البيت حتى ضجت القاعة بالتصفيق الحاد الذي أتاح لي فرصة شرب جرعة من الماء وأنا أشير إلى الطلبة للاستمرار في التصفيق، ليتسنى لي أخذ أنفاس عميقة، أستطيع بعدها مواصلة الإلقاء بحماسة مهيبة!!»، فمثل هذه الإشارة تكشف عن تلك الروح العفوية القادرة على استدرار الضحكة في أكثر المواضع جدية.

وفي احتفال آخر كانت له قصيدة منها هذا البيت الذي يخاطب به الغربيين:

أَنْتُمُ كَالكَلْبِ فِي إِقْدَامِهِ

إِنْ رَجَمْنَاهُ تَوَلَّى وَاسْتَكَانَا

يقول الزيد: «وأردت أن أنتقم من بعض مدرسيَّ القساة، فأشرت بإصبعي إليهم عند قولي (أنتم كالكلب في إقدامه)، فضجّت القاعة بالضحك والتصفيق، حتى هؤلاء المدرسون القساة ضحكوا وصفقوا»، وهذا الإشارة كاشفة عن بديهة متوثبة لا تكون إلا عند شخصيةٍ مرحةٍ تستطيع استثمار أي موقف لصنع نادرة طريفة لا يتوقعها أحد.

وتتجلى هذه الروح الفكهة عند الزيد في أحاديثه مع أحبابه، فله عبارات لفظية، وأخرى حركية تجسد الفكاهة، وتظهر روح السخرية التي بين جنبيه، وفي بعض أشعاره غير المنشورة انعكاسٌ لتلك المواقف الإخوانية المُظهرة لروحه الفكهة، ومع أنه لم يهتم بها لأنه كان يعدها ضربًا من المداعبات التي لا تستحق النشر، إلا أنّها ذات قيمة كاشفة عن شخصيته المرحة.

وبين يدي إحدى تلك القصائد المحرومة من النشر بعثها لأحد أصدقائه، وهي نسخة ضوئية لأصلٍ خُطَّ بيده، وقد نظم هذه القصيدة في أكل «مكبوس السمك»، ويقول في أوّلها:

أَيُّهَا الآكِلُ مَكْبُوسَ السَّمَكْ

قَرِّبِ المَاعُونَ لِي لَا أُمَّ لَكْ

وَاسْكُبِ الدَّقُّوسَ فَالدَّقُّوسُ مِنْ

بَعْضِ مَا أَهْوَاهُ، وَ(الآجارُ) لَكْ

وفيها يقول مخاطبًا صديقه:

فَاتْرُكِ اللَّحْمَ وَلَا تَقْرَبْ لَهُ

طُرُقًا إِنِّي أَرَى اللَّحْمَ (كَلَكْ)

وَاتْرُكِ الصَّمُّونَ وَاسْمَعْ قَوْلَ مَنْ

يَعْلَمُ الآفَاتِ فِي أَكْلِ (البَنَكْ)

فَأَكَلْنَا وَقَضَيْنَا وَطَرا

وَشَرِبْنَا الشَّايَ حَتَّى (البُومُ لَكْ)

والقصيدة عشرون بيتًا، ضمَّنها ألفاظًا عاميّةً تحمل دلالةً تثير الضحك، وتؤكِّد الفكاهة بالتمازج اللغوي بين الفصيح والعامي، والمفارقة الحية القائمة على المفاضلة بين أكل السمك واللحم.

فيستخدم لفظة (كَلَكْ) باللهجة الدراجة التي تعني الكذب، كما يستخدم تعبير (البُومُ لَكْ) والبوم سفينة خشبيَّة معروفة، أما لفظة (لَك) في العامية فتعني دخول السفينة بين الصخور والرمال سهوًا أو عمدًا، مما يشلّ حركتها، وفي ذلك كناية ظريفة عن الخَدَر الذي يعتري الآكل بعد وجبة السمك.

ثم يواصل الزيد فيقول:

وَاسْتَوَى فِينَا خَطِيبٌ عَالِمٌ

يَعْرِفُ الأَسْرَارَ مَا يَخْفَاهُ شَكْ

قَالَ: يَا صَحْبِي وَإِخْوَانَ الصِّبَا

آنَ أَنْ نَجْمَعَ لَحْمًا بِسَمَكْ

يَوْمُكُمْ يَوْمٌ مَطِيرٌ وَالدُّجَى

مُقْبِلٌ وَالبَدْرُ فِي جَوْفِ الفَلَكْ

فلا يخفى هنا غلبة القالب القصصي في القصيدة إيغالاً في الضحك والفكاهة التي يصفها الزيد شعريًا بدرايةٍ وعنايةٍ حتى آخر القصيدة.

إنَّ شخصيَّة الزيد الأدبيّة وقراءاته المتعمقة لأدب الجاحظ منذ نعومة أظفاره؛ جعلته يتمثل هذه الحالات الساخرة مستدعيًا من التراث النماذج الشعريّة الساخرة المبثوثة في فن المقامة لدى الهمذاني والحريري، محاولا محاكاتها بأبياتٍ مرتجلة لم يعمد لنشرها بقدر ما عمد إلى بثّ البهجة وصناعة البسمة في جو حميميّ بين الأصدقاء، وقد مضى واحدٌ وعشرون عامًا على رحيله، وما زالت الشفاه تبسم كلَّما خطرت الذكريات المرحة على الذهن.

لقد كان الزيد شخصيّةً استثنائيةً في حياتي، وسر استثنائيته أنه ذو شخصيةٍ تملأ عقل مُجالسه علمًا، وتغذي روحه أدبًا، وتخفف عن نفسه ثقل الحياة بمرحها، إنه الإنسان الذي تجد عنده كل ضالة تنشدها لتتكامل في هذه الحياة، فرحمه الله رحمةً واسعة.

د. علي عاشور الجعفر