«احتلالكم للجزر لا يقيّدنا، سنقوم بما يلزم في الوقت المناسب، وقد نحضر في إحدى الليالي فجأةً»... مرّت أسابيع منذ أن هدّد الرئيس التركي رجب طيب إردوغان بغزو اليونان بهذه الكلمات، فاستعمل العبارات التي اختارها قبل بدء العمليات العسكرية التركية السابقة في سورية، حيث تكثر المسائل التي تثير الانقسامات بين أثينا وأنقرة، لكن يصبّ إردوغان غضبه في الوقت الراهن على عسكرة اليونان لجزرها في بحر إيجة، فقد بقي الوجود العسكري اليوناني شبه ثابت هناك خلال العقود القليلة الماضية، لكن أنقرة تُصِرّ على أنه ينتهك المعاهدات التي رسّخت سيادة اليونان في الجزر، في العامَين 1923 و1947.

لم يعد اندلاع الصراع بين اليونان وتركيا ممكناً فحسب، بل أصبح هذا الاحتمال وارداً جداً، وتزداد المخاطر المطروحة عند قراءة أحدث بيانات المسؤولين الأتراك عن كثب وتقييم أنماط الأحداث في الأشهر الأخيرة، وتكثر العواقب الخطيرة التي تنتظر تركيا واليونان معاً إذا اندلع صراع حقيقي بينهما، ومع ذلك توحي خطابات إردوغان ومصالحه وعقائده الأيديولوجية بأن أنقرة قد تكون مستعدة لأخذ هذه المجازفة.

Ad

من جهة، تتعدد الأسباب التي تشكك بجدّية تهديدات إردوغان، فوفق أحد استطلاعات الرأي، لا تزال أغلبية بسيطة من الناخبين الأتراك مقتنعة بأن مواقفه هي مجرّد استراتيجية انتخابية لطرح أجندة معيّنة قبيل الانتخابات في السنة المقبلة، وبحسب الاستطلاع نفسه، لا وجود لأي «عداوة بين الشعبَين التركي واليوناني» برأي 64% من المشاركين، كذلك، لا يشكك الكثيرون بالعواقب المدمّرة لأي صراع بين اليونان وتركيا، نظراً إلى هشاشة الاقتصاد في البلدين. تشكّل عائدات السياحة، لا سيما تلك التي تنتجها المناطق السياحية على ساحل بحر إيجة، نحو 15% من ناتج تركيا المحلي الإجمالي (و18% من ناتج اليونان تقريباً). تتكل الدولتان بشدة على الشحن البحري في عملياتهما التجارية، فقبل أزمة كورونا، كان 87% من التجارة التركية يمرّ عبر موانئ دخول ساحلية، وبالإضافة إلى الأضرار الاقتصادية المحتملة، لن تكون التداعيات الدولية لهذا الصراع أقل خطورة، وقد ألمحت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى عدم تساهلهما مع أي هجوم يستهدف سيادة الأراضي اليونانية. كذلك، لن تتحلى بروكسل أو واشنطن بالصبر الكافي للتعامل مع ادعاءات تركيا المتعلقة بحصول عدوان يوناني.

من جهة أخرى، لا يستخف الكثيرون في اليونان بكلمات إردوغان، ففي الأسابيع الأخيرة، زادت النقاشات المطبوعة والمتلفزة حول تركيا تركيزها على احتمال الحرب، ومع اقتراب اليونان من انتخاباتها المحلية عام 2023، أعلن رئيس الوزراء اليوناني، كيرياكوس ميتسوتاكيس، بلهجة صارمة أن اليونان تعتبر أي تهديد مباشر على سيادتها «خطأً أحمر»، وفي الوقت نفسه حرص زعيم المعارضة، ألكسيس تسيبراس، على التوفيق بين رغبته في إسقاط ميتسوتاكيس والتزامه بالدفاع عن البلد إذا اندلع صراع حقيقي، مع أنه انتقد بأشرس الطرق قرار الحكومة الذي يقضي بالتوقيع على اتفاق دفاعي مع الولايات المتحدة، كذلك تبرز مؤشرات أخرى على استعداد أثينا لأسوأ السيناريوهات، وتكشف تقارير جديدة من شهر يوليو أن الجيش اليوناني بدأ ينشر «مظلة» مضادة للطائرات المسيّرة في جزر بحر إيجة عبر استعمال تقنيات إسرائيلية. وفي الفترة الأخيرة، نفّذت السفن اليونانية والفرنسية تدريبات مشتركة في بحر إيجة كجزءٍ من ميثاق دفاعي مشترك وقّع عليه الطرفان في عام 2021.

لكن يبدو أن مخاطر هذا الصراع لن تردع إردوغان أو خصومه في الانتخابات بالكامل، فقد انتقد كمال قلجدار أوغلو، رئيس أكبر حزب معارِض في تركيا، تعهّد إردوغان بإطلاق هجوم مفاجئ، وبرأيه، يُفترض أن يكرر أي زعيم حقيقي مسار الغزو التركي لقبرص في عام 1974، ويستولي بكل بساطة على الجزر اليونانية «المحتلة» من دون إطلاق التهديدات أو التحذيرات مسبقاً، وعبّر متحدث باسم «حزب الخير» القومي عن الرأي نفسه، ومن وجهة نظره، أثبت إردوغان ضعف قيادته لأنه لم يجعل اليونان «تدفع ثمن» إرسال مدرعات إلى «ساموس» و«ليسفوس»، فهو لا يعتبر الحرب بين اليونان وتركيا ممكنة، لكنه متأكد من خسارة اليونان لجزرها في حال اندلاع أي صراع. ربما صدر أقوى إثبات على التوجهات الداعمة للحرب من حليف إردوغان في الائتلاف الحاكم، الزعيم القومي دولت بهجلي، ففي شهر يوليو، عرض هذا الأخير خريطة يعتبر فيها جزر اليونان في بحر إيجة أراضي تركية، بما في ذلك كريت، ثم أعلن بهجلي أمام الجمعية الوطنية التركية الكبرى أن «السيادة، وحقوق الملكية، والصلاحيات البحرية، والفضاء الجوي» في عدد من الجزر اليونانية تعود «قانوناً وبلا أدنى شك» إلى تركيا.

قد لا يشير هذا الإجماع العام حول اليونان إلى اندلاع صراع فوري بالضرورة، لكنه يطرح سؤالاً واضحاً وشائكاً: ما الذي تريد أنقرة تحقيقه من خلال تصعيد الوضع؟ في ظل غياب أي مطالب أكثر وضوحاً من إردوغان، لم يجرؤ الكثيرون في وسائل الإعلام التركية على طرح توقعات مفرطة، فقد اقترح عدد من كبار الضباط العسكريين السابقين محاصرة الجزر اليونانية أو مهاجمتها مباشرةً، على أمل التخلص من القواعد والأسلحة المشبوهة، لكن يمكن رصد مسار شامل ومختلف في كتابات حسن بصري يالجين، محلل سياسي ورئيس قسم الأبحاث السابق في «مؤسسة البحوث السياسية والاقتصادية والاجتماعية» (منظمة بحثية مرموقة في تركيا). برأيه، كان تهديد إردوغان بالهجوم من دون سابق إنذار بداية عملية طويلة الأمد تهدف إلى الاستيلاء على جزر بحر إيجة، ومن الناحية القانونية، يُفترض أن تتّهم أنقرة اليونان بانتهاك معاهدتَي لوزان وباريس، مما يسمح بإبطال سيادة أثينا على تلك الأراضي، ويعتبر يالجين تجربة قبرص أفضل مثال على هذه الاستراتيجية، ومن وجهة نظره، قد يسمح غزو الجزر اليونانية واحتلالها، بما يشبه هجوم تركيا على قبرص عام 1974، «بإعادة تحديد مكانة تلك الجزر».

لكن ما الذي يدفع إردوغان إلى اختيار هذا المسار؟ قد يقرر الرئيس التركي أن يُصعّد الوضع بسبب استيائه الشخصي من زيادة قوة اليونان وتوسيع دورها على الساحة الدولية، وقد يتعلق عامل مؤثر آخر برغبته في نيل دفعة من الدعم قبيل الانتخابات، أو قدرته الدستورية على تأجيل الاستحقاق الانتخابي إذا تصاعدت تهديدات الحرب، كذلك، ترتفع على ما يبدو ثقة تركيا بنفسها في ما يخص نتيجة أي مواجهة محتملة مع اليونان، وفي هذا السياق، يبدو المناخ السياسي التركي مشابهاً بدرجة كبيرة للظروف التي سادت في الولايات المتحدة قبيل غزو العراق في عام 2003، ومثلما اعتبر جزء كبير من الأميركيين العراق مصدر تهديد مفرط على أمن الشرق الأوسط، تسود مشاعر مماثلة من الغضب وقلة الصبر في تركيا تجاه اليونان، وعلى غرار تعامل واشنطن مع صدام حسين عام 2002، تنتشر آراء تفاؤلية في أنقرة مفادها أن أي صراع مع اليونان سيكون قصيراً وحاسماً ونهايته النصر. عملياً، سبق أن أهانت تركيا اليونان في ساحة المعركة في مناسبات عدة، ومثلما استُعمِلت حروب كوسوفو والبوسنة والخليج للتأكيد على التفوق الأميركي العسكري في العراق، تتقاسم التعليقات التركية عموماً قناعة إردوغان الراسخة حول نجاح تركيا في إثبات قوتها العسكرية بعد تدخّلها في سورية، وناغورنو كاراباخ، والعراق، وليبيا، وعلى غرار التلميحات المتعصّبة في التغطية الإخبارية الأميركية للحرب عام 2003، يعتبر كبار المحللين الأتراك خصومهم اليونانيين ضعفاء. باختصار، قد يقرر إردوغان شن الحرب لأنه، مثل الكثيرين، مقتنع بأن النصر مضمون.

من المنطقي أن يُسبب أي هجوم تركي على اليونان أضراراً غير قابلة للإصلاح في علاقات أنقرة مع الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وحلف الناتو، نظراً إلى الميثاق الدفاعي بين اليونان وفرنسا والوجود الأميركي القوي في بحر إيجة، وفي ظل استمرار غزو أوكرانيا، لا مفر من أن تنشأ مقارنة فورية وغير محبذة بين إردوغان والرئيس الروسي فلاديمير بوتين عند إطلاق أي محاولة لاحتلال الأراضي اليونانية، وفي هذه الظروف، يصعب ألا يقيّم إردوغان العواقب الوخيمة لهذا التحرك على المستويات الدبلوماسية، والسياسية، والاقتصادية.

مع ذلك، تشير التجارب التاريخية إلى استعداده أو قدرته على تحمّل هذه التداعيات، ففي 1974، أقدمت تركيا على غزو قبرص رغم الأضرار المترتبة على علاقتها مع الولايات المتحدة وحلف الناتو، وفي سورية، نفّذ إردوغان تهديداته بالغزو بعد التعبير عن رغبته في إنشاء «منطقة أمنية» في شمال البلد، وفي غضون ذلك، لا تزال القوات التركية تُهدد بتوسيع احتلالها رغم التحذيرات المتكررة من واشنطن، وبدل تجنّب المواجهة إذاً، استغل إردوغان التقدم الذي أحرزه لهزم «المؤامرة» التي يحوكها الأميركيون والناتو لتدمير تركيا، فإذا كان إردوغان مقتنعاً بأن الولايات المتحدة، لا اليونان، هي عدوّته، فقد يعتبر مخاطر قطع العلاقات معها ثمناً مؤسفاً لكن ضرورياً لحماية الأمن القومي التركي.

* راين جينجراس

War On The Rocks