عنوان هذا المقال مقتبس من مقال نشر في الصفحة الاقتصادية بأول عدد صدر للزميلة «القبس» بتاريخ 22/2/1972، وبعد مرور هذا الزمن الطويل يبدو أن هواجس الحاضر وطموحات أجياله لم تتغيّر كثيراً عمّا كانت عليه في زمان الكتابة والنشر! فالاقتصاد ما زال ريعياً، والميزانية العامة ما زالت تتحمل العبء الأكبر من تكاليف الخدمات ومصاريف التقديمات، ومؤسسات القطاع العام مازالت مسؤولة عن تحريك الجزء الأوفر مما قد يسمى نشاطاً اقتصادياً، كما أن جلّ الأراضي التي تحتاجها القطاعات المنتجة ما زالت ضمن أملاك الدولة الخاصة والعامة، ولا يزال الحديث مكرراً عن أهمية تنويع مصادر الدخل وجعل المواطن شريكاً في مسؤولية التنمية التي لم يتح بعد للقطاع الخاص أن يشارك جدّياً في صناعتها أو تسريع مساراتها، وهذا ما قد يفسّر ويرتبط إلى حد بعيد بانكفاء الاستثمار المحلي وتردد الاستثمار الأجنبي في المخاطرة باستثمارات جديدة أو تطويرية، مع الافتقار لفرص واعدة تحفز حس المبادرة وتعزز روح الابتكار وتفتح المجال أمام ريادة الأعمال، مما زاد نزعة اعتماد جلّ اليد العاملة الكويتية على الوظيفة العامة.
ينبّه كاتب المقال المؤرخ في بداية سبعينيات القرن الماضي الى أنه «لم يعد ثمة مجال لتغطية مخاطر الارتجال أو الاستمرار في سياسة التجربة والخطأ» وأن هناك بعض الركائز المهمة للتطوير، من بينها: التخطيط، الإدارة، المحاسبة، والتخلي عن المركزية الشديدة، وهذا ما يذكر في عصرنا الحالي بمتطلبات «الحوكمة» في القطاعين العام والخاص، وبأهمية التنمية المناطقية وتطوير أداء الأجهزة الحكومية والمؤسسات الأهلية.في ذلك الزمان الذي كانت الكويت تعوّل فيه على النهضة الاقتصادية ما بعد عصر «الفورة النفطية»، تلفت الصفحة الاقتصادية لجريدة «القبس» الى عمومية التركيز في المحافل السياسية والشعبية والإعلامية على ضرورة وأهمية «السير نحو اقتصاد متوازن» تتوسع فيه «القاعدة الإنتاجية»... فكان منطقياً أن يكون العنوان الرئيس للصفحة مبرزاً «دور القطاع الخاص في تصنيع الكويت». الواقع أن كلمة «التصنيع» المستخدمة لا تحصر نطاق التنبيه والتركيز في المجال الصناعي فقط، بل إنها توسّع مروحة الضوء لتشمل صناعة النمو في كل المجالات والقطاعات الاقتصادية، والتي كان، وفق ما جاء في التحليل الاقتصادي، من معوقاتها الرئيسة: عدم وجود خطة علمية، عدم وضوح مدى وطبيعة الدعم الحكومي، مشكلتي الكفاءة الإدارية واليد العاملة، صعوبة التسويق والمنافسة الخارجية، ضعف أجهزة الإحصاء والدراسات... وكأن العود على البدء يتم في زماننا الحاضر!فمن منطلق الوقائع والهواجس والطموحات نفسها، يتساءل «سيونغ جين بايك» كبير الاقتصاديين في مكتب الأمم المتحدة في دولة الكويت عمّا اذا كان «تنويع الاقتصاد الكويتي: أسطورة أم حقيقة؟»، لافتاً في مقال نشره بتاريخ 16/1/2022 الى وجوب تركيز الاهتمام على «كيفية جعل مشاركة القطاع الخاص دافعا لعملية التنمية في البلد»، ولاسيما من ثلاثة جوانب رئيسة هي: أولاً: إنشاء بيئة مؤاتية لتعزيز الشراكات بين القطاعين العام والخاص في مشاريع البنية التحتية الاجتماعية كالمدارس والجامعات والمرافق الطبية، وغيرها. ثانياً: إزالة أي لوائح ومتطلبات إدارية غير ضرورية وغير متلائمة مع بيئة الأعمال سريعة التغير.- ثالثاً: إعطاء أولوية في أجندة السياسة الوطنية إلى جذب رأس المال الأجنبي، وبخاصة أنه من المعروف على نطاق واسع أنه كلما قل رأس المال الأجنبي الوافد، قل احتمال مساهمة الأفكار والتقنيات المبتكرة في عملية التنمية.القاسم المشترك بين الزمانين يتمحور حول ثابتتين متلازمتين: أولاهما تدور في فلك عدم تحرر القطاع العام من أعباء ومتطلبات وشعبوية الاقتصاد الريعي الذي يترافق مع نمط استهلاكي غير منتج.وثانيتهما عدم قدرة القطاع الخاص، رغم ما يملكه من مقدرات مالية وكفاءات بشرية ورؤى تطويرية، على النهوض أو الاستمرار دون خطة وطنية شاملة ومدروسة، وبغياب بيئة أعمال ملائمة تعزّز فرص المنافسة في السوق العالمية المليئة بالتحديات والتقلبات.المسؤولية في هذا المجال لا تقع على طرف دون غيره، فالتنمية مهمة وطنية شاملة، ودوامها حاجة ملحة ومستمرة، مثلث النهوض- الذي يقع على عاتق المؤسسات الدستورية مسؤولية رسم ملامحه وتحقيق أهدافه- قوامه ثلاثة أضلع، هي: قطاع عام مخطّط وداعم، قطاع خاص عامل وفاعل، ومجتمع واع لأهمية التحول من النمط الاستهلاكي الى السلوك الإنتاجي، وملتزم بواجباته الضريبية والوطنية. وفي السياق، يتربع على رأس أولويات التعاون بين السلطتين، مهمة لا يجوز التردد أو التباطؤ في تحقيقها، مفادها التركيز على تنفيذ الجزء الأكبر الممكن من خطط الإصلاح المالي والاقتصادي التي صار التذكير فيها اقتباساً مكرراً وربما مملاً، كونها معروفة العناصر ومحددة الأهداف ومكشوفة الخطوات اللازمة للتحقيق.التنمية في الكويت ليست مستحيلة كون جميع متطلباتها متوافرة بفضل من منّ على هذا الوطن بخيرات وفيرة وشباب طموح وفكر مبدع وحكم رشيد وديموقراطية محفزّة، جلّ ما يحتاجه تحريك العجلة هو التركيز على التنمية الاقتصادية كهدف وطني موحد وجامع يتطلب اعادة ترتيب الأولويات بما يترافق مع التحول التدريجي- السريع وغير المتسرع- نحو الرقمنة، وذلك، دون إهمال المرتكزات الأساسية لرؤية الدولة 2035.* كاتب ومستشار قانوني
مقالات
عود على بدء... ليس على الدولة وحدها يعتمد التطوير
18-10-2022