انتشرت مجموعة من المقارنات التاريخية لتحليل أحداث أوكرانيا وتفسير مسار حربٍ لم يتوقعها عدد كبير من الخبراء، فهل يجازف صانعو السلام، من أمثال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بالتعرض للخداع مثل رئيس الوزراء البريطاني السابق، نيفيل تشامبرلين، في ميونيخ؟ أم أنّ المرحلة الراهنة هي نسخة من أحداث عام 1914، وبدأت تعبئة أوسع نطاقاً تلوح في أفق أوروبا؟لطالما كان تحليل أحداث الحاضر عبر عدسة الماضي نهجاً شائعاً في أروقة السلطة، فقد أطلق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بنفسه مقارنات تاريخية لتبرير الحرب في أوكرانيا، وردّ الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي عبر إقامة مقارنات أخرى.
لكن تكثر المشاكل في هذا التفكير التناظري. قد لا يختار المحللون المقارنات المناسبة، أو ربما يميلون إلى انتقاء الحالات الأكثر شيوعاً بدل تلك التي تناسب الأحداث الخاضعة للتحليل. باختصار، قد تُمهّد المقارنات لصدور نتائج مُضلّلة إذا كانت تفتقر إلى الدقة والحذر.أثبت عالِم السياسة يون فونغ خونغ، في دراسته البارزة «المقارنات خلال الحروب»، في عام 1992، أن هذه الأخطاء كانت شائعة وسط صانعي السياسة الأميركية في فيتنام، وقيّم الرئيس الأميركي السابق، ليندون جونسون، عواقب الانسحاب من فيتنام عبر مقارنة الوضع مع ميونيخ، مما يعني تشبيه عدم التدخل في فيتنام بنزعة تشامبرلين المصيرية إلى استرضاء هتلر عبر معاهدة ميونيخ.لكن لم تكن أحداث فيتنام تشبه ميونيخ، مثلما كانت التجارب المستقبلية التي لجأ فيها صانعو السياسة الأميركية إلى إقامة المقارنات لفهم حكّام دكتاتوريين آخرين، مثل صدام حسين، مختلفة بالكامل. أثبت خبير العلاقات الدولية، أيدان جهير، أن صانعي السياسة الخارجية الأميركية فهموا الرئيس الصربي السابق، سلوبودان ميلوسيفيتش، انطلاقاً من اتفاقيات دايتون وميونيخ، مما أدى إلى تفاؤل الأميركيين باتفاقية «رامبوييه» ثم إطلاق الحملة الجوية بقيادة حلف الناتو لاحقاً.تصبح المقارنات التاريخية مغرية في زمن الغموض والشكوك تحديداً، وهذا ما يحصل في الوقت الراهن، ففي ظروف مماثلة، يبحث الخبراء عن فرضيات سهلة للتخلص من القلق والاطمئنان بشأن المستقبل، وتسمح المقارنات في هذه الحالة بإعطاء طابع ثابت للأحداث المتقلّبة عبر الاستناد إلى أنماط الماضي.كشفت التعبئة الروسية الأخيرة أن الحرب في أوكرانيا مليئة بالتطورات غير المتوقعة، وفي غضون ذلك، يتابع المحللون النقاش حول أسس هذه الحرب: هل هي حالة استثنائية؟ من الفائز حتى الآن؟ وما أهداف بوتين الحقيقية؟ وما أسباب الحرب، وما وجهتها، ومتى ستنتهي؟ إذا كان منطق التفكير التناظري عبارة عن نزعة قهرية بشرية حتمية، من الطبيعي أن ينظر الخبراء اليوم إلى الماضي لفهم أحداث الحاضر، فهل يمكن اعتبار أوكرانيا نسخة من ميونيخ إذاً، وهل يصبح بوتين نسخة من هتلر، وهل سيطلق هذا الصراع حرباً عالمية أخرى؟ وإذا كانت تلك الأحداث التاريخية لا تنطبق على الحرب الراهنة، فما الحالات التي يُفترض أن تُوجّهنا اليوم؟التاريخ مدرسة لتعليم الحنكة السياسية، لكن لا تحمل الدروس المستخلصة منه الأهمية نفسها، ويجب أن يفكر الخبراء ملياً بالمقارنات التي يختارونها إذاً، وبالدروس المزعومة التي يقدّمونها، والفئات التي يستهدفونها، وقد يستغل أصحاب السلطة المقارنات الشائعة في الأوساط العامة، بغض النظر عن دقتها. تكون المنافسة السياسية أصلاً مرادفة لاستغلال المقارنات المعقدة والاستفادة منها في آن، وتبقى المقارنات التاريخية القوية رغم بساطتها، بين الخير والشر مثلاً، مُغرِية على نحو خاص.أخيراً، يجب أن يتحكم الخبراء بتوقعاتهم. تتطلب الحنكة السياسية الاستثنائية مستوىً من التعقيدات المعرفية التي تبقى نادرة على الأرجح. في ظل تراكم المقارنات التاريخية المرتبطة بأوكرانيا اليوم، يجب أن يتذكر الخبراء دوماً أن المقارنات تبقى محدودة، فقد توصّل أبرز محللي هذا المنطق حديثاً إلى الاستنتاج التالي: جميع المقارنات التاريخية مشبوهة.* «كريستوفر ديفيد لاروش»
مقالات
أوكرانيا ليست ميونيخ أو فيتنام أو برلين
18-10-2022