لقد أصبحت الوظائف الجيدة أولوية قصوى في جميع بلدان العالم، حيث يؤكد صناع السياسات في الاقتصادات المتقدمة والنامية على حد سواء الحاجة إلى خلق فرص عمل مرتفعة الأجر مع توفير الأمن الوظيفي والسلم المهني، وقد أوضحت العولمة والتغير التكنولوجي على نحو مؤلم أنه لا يمكن ترك هذه المهمة بالكامل للأسواق.عندما يتحدث صُناع السياسات عن خلق فرص عمل جيدة، فإنهم يركزون عادة على عوامل مثل الحد الأدنى للأجور والمفاوضة الجماعية والاستثمار في المهارات، وعلى الرغم من أهمية هذه التدخلات، فإنها ليست كافية، إذ تُعد الإنتاجية حلا فعالا، ولا يمكن أن يزداد المعروض من الوظائف الجيدة إلا إذا أصبحت الوظائف التي يتم خلقها لتوزيع المهارات المنخفضة والمتوسطة أكثر إنتاجية، مما يتيح أجورا أعلى، ومزيدا من الاستقلالية، وآفاقا وظيفية أكثر إشراقا لمن يشغلونها، عدا ذلك فإن المُطالبة بأجور أعلى وظروف عمل أفضل يمكن أن يؤدي إلى حرمان العُمال الأقل تعليما من فرص العمل، وتُشير فرنسا، التي تشهد معدلات بطالة مرتفعة للغاية بين الشباب، إلى هذا الواقع.
ومع ذلك هناك مشكلة أخرى تتمثل في أنه حتى عندما يتحدث صناع السياسات عن سياسات الصناعة والابتكار التي تستهدف على وجه التحديد زيادة الإنتاجية والتكنولوجيات الجديدة، يتم التعامل مع الوظائف الجيدة باعتبارها قضية جانبية، وفي الولايات المتحدة، تستهدف هذه السياسات التصنيع المتقدم مثل شبه الموصلات (من خلال قانون دعم حوافز لإنتاج الموصلات) والتقنيات الخضراء (من خلال قانون الحد من التضخم)؛ وفي أوروبا، ينصب التركيز على «الرقمنة» إلى جانب التحول الأخضر، وفي كلا السياقين، يُفترض ببساطة أن تنشأ الوظائف الجيدة كنتيجة ثانوية لهذه البرامج، على الرغم من أن هذا ليس الغرض الأساسي منها.في الواقع، من غير المرجح أن تكون التقنيات الخضراء والتصنيع المتقدم مصدرا رئيسا لخلق فرص العمل بالنسبة للعُمال الذين يعانون نقص الخدمات في أسواق العمل الحالية، فبعد كل شيء، يوظف التصنيع أقل من واحد من كل عشرة عمال في الولايات المتحدة، وتُشير تجربة البلدان الأخرى حيث كان أداء التصنيع أفضل بكثير (مثل ألمانيا وكوريا الجنوبية وتايوان) إلى أن عكس اتجاه تراجع التصنيع في العمالة أمر صعب للغاية، بل غير مسبوق في واقع الأمر.ونظرا لأن غالبية الوظائف المستقبلية ستأتي من قطاع الخدمات، فيتعين علينا أن نركز جهودنا على خلق وظائف منتجة للعُمال الأقل حظًا في هذا القطاع. في دراسة جديدة لمشروع هاميلتون، قمت بوصف ما قد تبدو عليه السياسة الصناعية للخدمات في الولايات المتحدة.يحتوي اقتراحي على عنصر محلي ووطني، ويعتمد العنصر المحلي على برامج المساعدات الإنمائية والتجارية الحالية التي تتخذ شكل شراكات تعاونية بين وكالات التنمية والشركات وأصحاب المصلحة الآخرين بهدف تنشيط المجتمعات المحلية وخلق فرص عمل جيدة. تضم المبادرة الوطنية وكالة مشاريع البحوث المتقدمة (ARPA) التي تركز على الترويج لنوع معين من الابتكار: التقنيات المواتية للعمالة.يجب النظر إلى الاختبار الأصعب لهذه الأفكار: الرعاية طويلة المدى، إذ سيعرف هذا القطاع زيادة سريعة في نسبة التوظيف مع استمرار تقدم السكان في السن، ومع ارتفاع الطلب على ترتيبات المعيشة في المنزل أو في دور العجزة. ولكن نظرًا لأن معظم أعمال الرعاية طويلة الأجل تتم في المنازل (من خلال الوكالات التي توفر مقدمي الرعاية أو من خلال مقدمي الرعاية العاملين لحسابهم الخاص) أو في مجتمعات تتسم بضعف التنظيم فيما يتعلق بمرافق الرعاية أو المتقاعدين، فإن الأجور وظروف العمل كانت تقليديا سيئة، وهي خصائص تُجسد الوظائف السيئة، وتُمثل النساء غالبية الموظفين- وبشكل غير متناسب النساء ذوات البشرة السوداء- ولأن عملهن يُعتبر عادةً منخفض المهارة، فلا يُنظر إليهن باعتبارهن عاملات مُحترفات.كيف يمكن تحسين الوظائف في مجال الرعاية طويلة الأمد؟ يقترح بول أوسترمان الخبير الاقتصادي في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا ثلاث استراتيجيات شاملة: أولاً، يمكن للحكومة فرض بعض المعايير مثل رفع الحد الأدنى للأجور. ثانيا، يمكن لصُناع السياسات زيادة معدلات سداد تكاليف برامج التأمين «ميديكيد» و «ميديكير» لخدمات الرعاية الصحية، على أمل أن يؤدي ذلك إلى زيادة معدل الأجور. ثالثًا، يمكن زيادة إنتاجية العاملين في مجال الرعاية المباشرة، مما يساعد نظام الرعاية طويلة الأجل على تلبية احتياجات المرضى بشكل أفضل وخفض التكاليف، مما يخلق المجال للحصول على تعويضات أفضل.في حين قد تكون الاستراتيجيات السابقة مُفيدة إلى حد ما، فإن تعزيز الإنتاجية يُشكل في النهاية المصدر الأكثر موثوقية لخلق فرص عمل أفضل، وتحقيقا لهذه الغاية، يقترح أوسترمان نهجا مشابها للطريقة الرائدة التي يتبناها صناع السيارات في اليابان لنشر الابتكارات الجديدة في التصنيع، ويستلزم ذلك مزيجا من الاستثمار في مهارات العمال؛ ومنح العمال قدر أكبر من المشاركة، وحرية التصرف، والاستقلالية؛ فضلاً عن منحهم المزيد من المسؤولية عن نوعية الخدمة.يمكن للعاملين في مجال الرعاية الصحية الذين يتمتعون بقدر أكبر من الاستقلالية والقدرة على اتخاذ القرار استخدام معرفتهم بالمقيمين والمرضى لتخصيص خدماتهم وتوفير المزيد من المرونة (مثل الجداول الزمنية والطعام والعلاج). والأهم من ذلك أن هذه الاستراتيجية ستسمح أيضا بإدخال تقنيات جديدة تكمل مهارات مقدمي الرعاية، مثل الأدوات الرقمية التي يمكن لمقدمي الرعاية من خلالها جمع المعلومات في الوقت المناسب والاستجابة بشكل أسرع وأكثر كفاءة لاحتياجات السُكان.تتطلب هذه التغييرات الاستعداد لتجربة ممارسات العمل الجديدة والجهود المُستمرة، والانتقال من البحث والتطوير وإدخال تقنيات جديدة للرعاية طويلة الأجل إلى تبنيها وتكييفها وتأطيرها محليا في مجتمعات محددة، وإذا تمت إدارة الرعاية طويلة الأجل على نحو أفضل بهذه الطرق، فستتمثل فوائد الإنتاجية في انخفاض نسبة استقالة العاملين في مجال الرعاية، وانخفاض معدلات الاستشفاء، وإدارة أفضل للحالات المزمنة، وانتقال أسرع وأكثر سلاسة من مرافق العناية المركزة.لن يكون تحقيق ذلك بالمهمة السهلة، فإن تعزيز الإنتاجية في مجال الخدمات أمر صعب للغاية، وغالبا ما تعوقه العديد من اللوائح المتعلقة بالتراخيص، وتدابير السلامة وغيرها، ولكن إذا فشلنا في إيجاد السبل الكفيلة بزيادة الإنتاجية في المهن المُخصصة لعُمالنا، فسننتهي باقتصاد «الوظائف السيئة» الأسوأ أداءً والأقل شمولية.* أستاذ الاقتصاد السياسي الدولي بكلية جون إف كينيدي للعلوم الحكومية بجامعة هارفارد، ورئيس الرابطة الاقتصادية الدولية ومؤلف كتاب «حديث صريح عن التجارة: أفكار من أجل اقتصاد عالمي عاقل».* داني رودريك
مقالات
لماذا يحتاج قطاع الخدمات إلى سياسة صناعية؟
19-10-2022