منذ ما يقارب العام، أصبحتُ مدمنة لبرنامج الصندوق الأسود، الذي يقدمه المحاوِر المبدع عمار تقي، وأصبح ازدحام الشوارع مُتعتي كي تطول فترة استماعي للبرنامج في السيارة، وفي البيت، أطيل ممارسة هوايتي في التطريز كي أستمع إلى الحلقة تلو الأخرى بنهم وشغف.

يتميز عمار بانتقاء ضيوفه بدقة، سواء من داخل الكويت أو خارجها، ويُنصت لضيفه بشكل رائع، مُعطِياً إياه مساحته الكافية (في معظم الأحيان) للتعبير عن أفكاره وخلجات (صندوقه)، كما يجيد عمار قراءة تاريخ ضيوفه بمهارة، ويطرح أسئلة مُتقنَة بإحكام، فيبدأ بالحديث عن مراحل حياتهم منذ الطفولة، ويركز على أهم الأحداث المتتالية والتحديات التي واجهت الضيف خلال سنوات عمله وعطائه، وانتهاء باللحظة الآنية التي يتوقف عندها اللقاء.

Ad

وليس الأمر سهلا كما يعتقد البعض، لأن عمار كالباحث المتعمق في التاريخ، يسعى بتجرد لسد ثغرات من التاريخ من خلال روايات الضيوف، ويحاول بجدارته تغطية أكبر مساحة زمنية ممكنة مع مقاربة الحقائق قدر المستطاع، فيمارس (أحيانا) نوعا من الضغط على ضيفه بحيث يتساءل ما إذا كان الخبر (معلومة حقيقية) أو (تحليلا) يفترضه الضيف، والذي بدوري أشفق عليه من عمار أحيانا.

إن افتراض صدق أو (كذب) الضيف يرجع في رأيي إلى نوايا المستمع الذي يرغب في تصديقه أو تكذيبه بناء على معطيات مسبقة، ناهيك عن الزاوية الشخصية التي يتحدث الضيف من خلالها، والتي تصبح بالضرورة زاوية مغايرة تماما مع ضيف آخر، يدحض رؤية من سبقه، مما يصيب المستمع بالارتباك وبالتالي الشك في مصداقية كلا الضيفين المعاصرَيْن للمرحلة ذاتها، وعليه يبقى الأمر متروكا للمستمع الباحث عن الحقيقة، في قبول الروايات أو ردها ونقدها.

لقد استطاع عمار، ذو الابتسامة الخجولة، ونبرة الصوت المتزنة، والنظرات الحذرة التي يترقب بها إفصاحات ضيوفه، أن يمنح المستمع العربي مادة جادة دسمة، يتعرف خلالها على معاقل فكرية وتاريخية سرية لم يحلم أن يقترب منها يوما ما، ولا عجب إذاً أن تم عام 2020 تكريم عمار، ضمن الملتقى الثقافي الذي أقامه الأديب الفاضل طالب الرفاعي في موسمه التاسع، كشخصية قدمت نقلة كبيرة في الإعلام الكويتي المعاصر.

بدوري، أود هنا أن أطرح مجموعة من الأمنيات والاقتراحات التي قد يتسع لها صندوق عمار، أبدؤها بالأمنيات بأن يواصل حلقاته الشيقة بمزيد من الثقة والجرأة، فيرفع سقف الحرية بحيث لا يضطر إلى حجب بعض ما يفصح عنه ضيوفه الكرام خشية اقتيادهم إلى المحاكم أو لاعتبارات أخرى ذات نتائج غير مرغوبة.

وأن يعطي للمرأة العربية نصيبا أكبر في الظهور، إذ اكتفى حتى اللحظة باستضافة امرأة واحدة هي السيدة الفاضلة لولوة القطامي، ومن باب التحليق بأمنياتي، حبذا لو تتسنى لعمار فرصة الانطلاق خارج حدود الوطن العربي، بأن تكون له بصمة غربية عبر الالتقاء مثلا بالحائزين على جوائز نوبل في كل المجالات، على الرغم من أني موقنة تماما أن حاملي الصناديق السوداء من العرب كثر ومن الممكن الاكتفاء بهم.

وهنا يبرز التحدي الأكبر لعمار، والمتمثل في ضيق الوقت مع ضرورة الاستفادة القصوى من أكبر عدد ممكن من الشخصيات المؤثرة في عالمنا العربي، والتي امتد بها العمر وهي تــرفل بثوب الصحة، وقد بات هؤلاء في عداد الندرة اليوم.

أما جانب المقترحات فلعل نوعية ضيوف البرنامج تتسع لتشمل، على سبيل المثال لا الحصر، الفنانين (تمثيل، رسم، نحت) والأدباء والرياضيين، ممن لا يقلون شأنا عن السياسيين والمفكرين العرب، وأقترح كذلك كتابة عنوان صغير لكل حلقة، تتضح من خلاله المرحلة الزمنية أو الأحداث التي يتكلم عنها الضيف، وذلك كي يتسنى للمستمع العودة إلى الحلقة التي تهـمُّهُ بعينها.

ختاما، إنني ممتنة للغاية لعمار تقي وصندوقه الأسود، الذي قدم نموذجا رزينا لبرنامج حواري يحترم سيرة ضيوفه ووقت مستمعيه، بإضافة الجديد الممتع لذائقتهم الفكرية، وإشباع تعطشهم لحقائق التاريخ الحديث. شكراً عمار، متمنية لك المزيد من النجاحات في المستقبل.

علا حسني منصور