هذا اللقاء مع الشاعر العراقي الكبير مظفر النواب أجري في 19 أبريل 2001، وها هو بعد ما يزيد على عشرين عاماً، يرى النور على صفحات «الجريدة». استعرض النواب في ذلك اللقاء، الذي تم في ضاحية دمر بدمشق، جزءاً من تاريخه ونشاطاته الفنية والاجتماعية والسياسية وهواياته، والأشخاص الذين أثروا في حياته، سواء من عائلته أو أصدقائه، سارداً مواقف من نشأته في حي الكرخ ببغداد، وكيف كانت طفولته، وبواكير موهبته في الكتابة منذ المرحلة الابتدائية، وما تبعها من مراحل. ثم انتقل إلى إضاءة الشاعر مساحة من نشاطاته الأدبية والسياسية في المرحلة الثانوية والجامعية، ومشاركته في المظاهرات أثناء الحكم الملكي وقدوم البعثيين إلى الحكم، فضلاً عن معارضته للكثير من الأفكار السياسية التي كانت سائدة بالعراق آنذاك. كانت الصراحة تتجلى في أرقى صورها من خلال تجاوبه مع الأسئلة، مما منح اللقاء رونقاً خاصاً بسبب عفوية الشاعر وصراحته المطلقة في الإجابة بكل أريحية وبتفاصيل دقيقة لكل جزئية، نضعها بين يدي القارئ ليطلع على محطات جديدة من حياة الشاعر، وفيما يلي تفاصيل الحلقة الأولى:

Ad

• متى وأين ولدت بالضبط؟

- أنا من الكرخ في العراق، لا أعرف اليوم الذي ولدت فيه تحديداً، إذ كان جدي يسجل الأسماء والتواريخ لكل مولود جديد في عائلتنا على هامش القرآن، ونظرا لانتقالنا من بيت لآخر لا أدري أين صارت نسخ القرآن، وضاع تاريخ الميلاد، لكن ما أعرفه أني ولدت عام 1934.

• ماذا درست في العراق؟

- أنا خريج كلية الآداب، فرع اللغة العربية، ودرّستُ لفترات قصيرة لأنني أُدرّسُ وأُفصَل، بعدما تخرجت لم أعمل على أساس أنني ضد النظام الملكي، إلى ثورة يوليو 1958، إذ تم توزيعنا في وزارة التعليم لفترة وجيزة، ثم نُقلتُ إلى التفتيش الفني في مدارس بغداد، بعدها فُصِلتُ أيضا لأسباب سياسية، لم أُدرِّس أكثر من أربعة أو خمسة أشهر، أو لنقل إن مجموع ما درّستُهُ لا يساوي سبعة أشهر، فكنتُ أفصل دائما لأني مشاكس، ولا أزال.

• حدثني عن أسرتك؟

- والدي عبدالمجيد النواب كان يعزف على العود، ووالدتي تعزف على البيانو، جدي لوالدتي يعزف على القانون وعلى البيانو، في العائلة أكثر من فرد يعزف على آلة موسيقية، وجدي لوالدي أيضا عنده كتابات شعرية لا أدري أين صارت لأننا انتقلنا كثيرا فضاعت.

اعتادت عائلتنا أن تجتمع كل أسبوعين أو ثلاثة، تقيم سهرات عائلية يتخللها العزف على العود والقانون، كما كان هناك أصوات جيدة، يبدو أننا ورثنا الحنجرة القوية، فأكثر من واحد لديه صوت جميل في العائلة.

العائلة في بيتنا، حسب ما كنت أعيه، كانت تتكون من جدي لوالدي، والدي ووالدتي وعمتي، وبيت عمي، وبنات عمي، كنا نلعب معا في البيت نفسه، تأثرت بكل هذا.

• كيف كنت تراقب هذه السهرات العائلية، كطفل، وتختزنها في داخلك؟

- كنت أرافق والدي باستمرار، هو الذي ساعدني في تدريب الحنجرة، لأننا منذ الطفولة كنا نجلس معه ونغني الأناشيد والأغاني بصحبة العود.

كان جو البيت في عاشوراء يتحول إلى شيء آخر، إلى مأتم، تأتي المواكب وتدخل عندنا في البيت وتخرج، لأن البيت كان كبيرا ضخما مثل القلعة، يضم 35 أو 40 غرفة ربما، تدخل المواكب مع المشاعل والذين يضربون السلاسل، وماء الزهر الذي يرشونه على الناس، فتتحول ساحة البيت إلى ساحة لتقديم معركة كربلاء، مثل تمثيلية تسمى (الشبيه) في العراق.

كان البيت شرقيا، فيه ساحة مفتوحة على السماء، الطابق الأول كله نساء يرتدين الأسود، ولا تظهر منهن إلا العيون مع الدموع والبكاء، وكذلك السطح يمتلئ بالنساء في عاشوراء.

من الأشياء التي لا أتذكرها وقيلت لي في العائلة، عندما كانوا يُقدّمون معركة كربلاء، يُحضرونني وأنا طفل لأمثل دور الرضيع ابن الإمام الحسين والذي قتل في المعركة، فلا أعرف كيف تأثرت بالصراخ وأنا طفل صغير، لكنه بالتأكيد أثّر باللاوعي، فالصراخ ورائحة ماء الزهر، والنار والمشاعل، والنساء وبكاؤهن والأهازيج التي يردّدنها، كلها فيها إيقاع ونغم، وكوّنت عندي حسا تراجيديا مسرحيا مبكرا.

عندي قصيدة عن عالم القطط، فيها تراجيديا، هذا القط المسكين الذي قُتل، والقطة التي قُطع ذيلها، جذور القصيدة مستمدة ربما من اللاوعي الذي أثّر بي وأدى دورا كبيرا في قصائدي، فأحيانا يحلم الإنسان حلما يؤثر عليه كل النهار، يؤثر على مزاجه ووضعه وإيقاعه، رغم أن معرفته أنه مجرد حلم.

ورغم أن عائلتي أرستقراطية، فإن بيتنا كان في منطقة شعبية، في الكرخ، في منتصف بغداد، وبالقرب منا كانت مواسم الأعياد فيها أراجيح ودواليب وأهازيج ودبكات وأغان، كل هذا الجو الذي فيه غناء وإيقاع وألوان، هناك غنى بالألوان أيضا، كلون الأعلام، واللون الأسود العام للحداد في عاشوراء، ولون الدماء.

بيتنا يضم أيضا غرفا لاستقبال الضيوف، نسميها صالونا، عندنا صالون كبير وواسع، مفروش بشكل وثير جدا، فيه تماثيل كثيرة محفورة من العاج، ويوجد سجادات صغيرة معلقة على الحيطان، صناعتها حريرية دقيقة جدا، هذه الألوان كلها أيضا تُغني الرؤية، لذلك كنت وأنا صغير أرسم وحدي وأشخبط، وكانت زوجة عمي تشتكي من كثرة الأوراق التي أرسمها وأرميها أو أقصقصها عندما أزور بيت عمي.

كنا لا نخرج من البيت لخوف أهلنا علينا، وإذا أردنا أن نلعب يأتي أصدقاؤنا إلى بيتنا، ربما لم ألعب في الطريق حتى المرحلة المتوسطة، لذلك عندي رغبة باللعب أحيانا حتى لو كان ذلك بالكتابة، بالصيغ والمفردات، مثل اللعب بالألفاظ في قصيدة عالم القطط حين أقول (مييووااه) أو (واا هرااه).

هذا الجو كله أثّر بي سواء من ناحية السماع أو من ناحية اللون، والأجواء التراجيدية لكربلاء ومقتل الحسين، وكونه يقف بعدد صغير أمام جيش كبير للدولة الأموية، يقارع دولة، فصار الجو مغروسا في داخلي كما عند العراقيين بشكل عام تقريبا، لكن عندنا أكثر في البيت لأنه كان مكرسا في عاشوراء لهذه القضايا، وأحيانا في غير عاشوراء، ومن هنا بدأت فكرة مقاومة الدولة التي نشأنا عليها واستمرت معنا.

ثم تأتي مرحلة الاختلاط بالطلاب والأفكار السياسية والجيش، بدأ هذا الواقع يتسيس أيضا في جانب اللون والنغم، وبدأ الفهم للصراع الاجتماعي، وفهم لمعرفة كربلاء بهذا الإطار، بمعنى أنه صراع ضد سلطة غاشمة تحاول أن تتحكم فيما حولها.

• هل كان لوالدتك دور في شخصيتك؟

- بالطبع لها الدور الأكبر في حياتي، كانت حساسة جدا، ومن الأشياء التي أتذكرها أنني كنت أنام بجانبها وأنا صغير، فتقرأ لي الشعر، ومن القصائد التي أتذكر بقايا منها، قصيدة (رلى عرب قصورهم الخيام، ومنزلهم حماة والشآم) للشاعر قيصر المعلوف، في القصيدة رجل يحب ابنة عمه، ثم يُكتشف أنه قتل عمه ثأرا، فلا يتم زواجه من ابنة عمه، كانت أمي تقرأ القصيدة وأشعر بدموعها تنهمر.

تأثير الوالدة كان كبيرا، عندما كنت أسافر للمناطق الشمالية مثل كردستان، كانت تودعني وهي تبكي، وحين أعود تبكي، كانت حساسة جدا، وهذا أثّر عليها وأتعبها بشكل مبكر في الحقيقة.

كانت أمي تصحبني لبيت جدي، والد أمي، الذي يعزف على البيانو والقانون، وكان الرسم حاضرا أيضا بسبب اللوحات الموجودة في صالون البيت، كما كان أحد أخوالي يرسم أيضا، وكانت الأجواء غنية وبدأتُ محاولاتي الشخصية في الرسم، أما بعض كتاباتي الشعرية فقد وصلتُ إليها بدون قصد.

• كيف تشكلت مواهبك في الشعر والرسم؟

- في البيت كان لدينا مكتبة كبيرة، أتذكر أنني كنت أضع كرسيا لأتناول كتابا، وفي وقت مبكر في المرحلة الابتدائية، في الصف السادس تقريبا، أعجبتُ بشعر المتنبي. كنتُ أحب مقدمات قصائده، وعندما أصل للمديح أتوقف عن القراءة، أحب القصائد التي فيها أجواء، وأحاول أسأل عن المفردات التي لا أعرفها، هذه المكتبة أفادتني كثيرا.

وفي الصف الثالث الابتدائي كانت دروس النحو أصعب من الآن، وكنتُ أكتب الإنشاء بشكل جيد بسبب جو البيت، وكان والدي يعمل لنا مسابقات، أنا وخالاتي وبنات وأبناء عمي، يقول لنا (صِف غروب الشمس) مثلا، كنتُ أفضلهم في الكتابة. كل هذا أدى دورا في غنى مخيلتي.

أما الشعر فقد اكتشفته مصادفة، ففي الصف الثالث كان مدرس اللغة العربية يدرسنا النحو والإنشاء، وكنت خجولا جدا، بحيث أخجل إذا طلب مني المدرس الوقوف، وإذا طَلب مني التوجه إلى السبورة فهذا بالنسبة لي يعني كارثة، في درس الإنشاء، الذي غالبا ما يكون في الحصة الأخيرة، يسمح لي المدرس بالعودة للبيت لمعرفته بشطارتي بالمادة.

في أحد الأيام تغير الجدول وصار درس النحو آخر حصة، وأنا لم أكن أجيد النحو، وذات مرة كتب المدرس نصف بيت من الشعر على السبورة، مازلت أتذكره وهو (قضينا ليلةً في حفل عرسِ)، فطلب مني القيام وخشيت أن يطلب إعراب البيت لأني لا أجيد الإعراب، فقال لي: إذا أكملتَ بيت الشعر سأسمح لك بالذهاب إلى البيت، وبسبب الارتباك في الحقيقة، ليس لأني أعرف الشعر وإنما للتأثير اللاواعي لبيتي ربما، أكملتُ قائلا (كأنا جالسون بقُرص شمسِ)، فذُهل المدرس حينها بسبب السرعة التي أكملتُ بها البيت، وطلب من الطلاب البقاء سكوتا في الفصل حال ذهابه لمدير المدرسة يخبره عني. كان حدثاً كبيرا في المدرسة إذ اجتمعت كلها، وكان هذا كارثة بالنسبة لي لأنهم أخرجوني إلى منتصف الساحة، وجمعوا كل الفصول، وكان طلاب الفصل السادس طوالا وكبارا، وأنا صغير، يكاد يغمى علي. بدأ مدرس اللغة العربية يشرح كيف أكملتُ بيت الشعر بسرعة، ويتحدث عن سلامة البيت من حيث الإعراب، وكيف أن حفل العرس به أضواء والشمس فيها ضوء. طبعا لم أكن منتبها لكلام الأستاذ بسبب خجلي لحظتها.

في مدرستنا يوجد مكتبة، وقد أهداني المدير مجموعة كتب، وعدت للمنزل سعيدا لانتهاء الكارثة، وفي البيت كان الكل سعيداً بي حيث أخبر مديرُ المدرسة والدي بالأمر، وفي تلك اللحظة قلت بيني وبين نفسي إن الشعر بسيط إذاً، وفعلا بدأت أولى محاولاتي.

كنت آخذ ديوان أبي تمام وأجلس على سطح البيت تحت شمس الشتاء، وكنوع من العزلة أجلس في زاوية، كتبتُ قصيدة من ثمانية أبيات أقلد بها أبا تمام الذي تميز بصعوبة لغته، لكن كان عندي قاموس مفردات لا بأس به من قراءاتي البيتية، وكان عندي إمكانية الوزن بدون العودة للعروض وبحور الشعر، وحتى الآن لا أرجع إليها، فكتبت قصيدة وتشجعتُ لأخذها للمدرسة في اليوم التالي لأقدمها للمدرس، وقد ذُهل واتهمني بسرقتها من أبي تمام. نفيتُ ذلك وقلت أني كتبتها متأثرا بأبي تمام بعد قراءتي له، وللأسف بعد انقلاب 1963 حُرقت الكثير من الأوراق التي كانت عندي خوفا، فلم تعد عندي القصيدة، لكن ربما تكون ضمن الأوراق عند أخواتي في العراق، يجوز ولست متأكدا، لأن بعض رسومي القديمة موجودة لدى أخواتي. المهم كانت هذه بدايتي مع الشعر. واستمررت بهذا الطريق وصار مدرس اللغة العربية يصحح لي بعض ما أكتب بعد وثوقه أنني كاتب القصائد فعلا.

فيما يتعلق بالرسم، أرسم بالألوان المائية، الباستيل أو الزيتية، ولوحاتي فيها جانب من التجريد، لكنّ بها أشكالاً واضحة وليس تجريدا كاملا، وأحاول البحث عن الخصوصية في الرسم، فالذي لا يُكتب شعرا يُرسَم، والذي لا يُرسم يُغنّى.

في الرسم صارت لي حادثتان، كنت أسكن في بيت في بيروت خلال الحرب الأهلية، وتركته بسبب الضرب فسُرق البيت، وسُرقَت كل اللوحات، وفي بلد عربي آخر لا أريد أن أذكر اسمه، سُرقت أيضا كل الأشياء واللوحات من البيت، فصار عندي ردة فعل أنه كلما أرسم تُسرق اللوحات وتضيع كلها في يوم واحد، وأظن كانت وراء السرقة أبعاد سياسية، ومع ذلك رسمت بعدها وأقمتُ معرضا في نادي الكوفة في لندن قبل نحو ست سنوات، كُتب عن المعرض وبيعت 15 لوحة من أصل 30 لوحة معروضة، وبقيت ال15 لوحة عند صديقة مهندسة عراقية تهتم بالشعر، أزورها كلما زرت لندن، وهي تحتفظ بلوحاتي في بيتها.

• كيف دفعت المرأة بك إلى الأمام بشكل عام؟

- كان بيتنا الكبير مقابل مدرسة ثانوية الكرخ للبنات، فكل صديقات بنات عمي يأتين عندنا للبيت، وعلاقتي بهن منذ الطفولة علاقة صداقة لا عداء فيها، عادة محيطنا العربي لديه نوع من العدائية في التربية من الطفولة، أو اعتبار عالم الذكور والإناث عالمين منفصلين، مع تمييز عالم الذكور. هذه الأمور لم أكن أعرفها إطلاقا، ففي بيتنا كان غالبية الزوار من البنات يلعبن مع بنات عمي، مع وجود قليل من الأصدقاء الذكور.

والحقيقة أنا عندي تعلق بالناس الذين أتعرف عليهم من الطفولة، ففي مرة زارتنا عائلة من أصدقاء أهلي، من محطة الحِلّة التي تبعد مسافة ساعة عن بغداد، والساعة بالنسبة لطفل تعتبر مسافة سنوات، وكنت في نحو العاشرة أو الحادية عشر من عمري، كانت العائلة مكونة من الأب والأم وولد اسمه حميد وبنت اسمها ماجدة، فكنا نلعب الورق (شدّة)، أنا وعمتي والعائلة، أحيانا نخسر، وإذا ربحت أنا وحميد نقلب الدنيا في البيت بالصياح والفرح، ظلت العائلة عندنا ثلاثة أيام، ففي السابق لا يوجد فنادق، والناس تسكن في البيوت، وعندما حان وقت سفرهم، ملأتُ البيت طولا وعرضا بالبكاء، وظلت في نفسي إلى الآن مسألة سفرهم، ولذلك عقلي إلى الآن يطير من الوداع ويصعب عليّ، لا أحب لحظات السلام والوداع والمطارات وغيرها، لأنها تعيد لي تلك الأجواء أحيانا بشكل غير واع، وكنت مصراً أن أذهب معهم إلى الحلة لكن أهلي رفضوا خوفا عليّ.

أجواء اللقاء مع الشاعر في سطور

التقيتُ بالشاعر العراقي الراحل مظفر النواب لأول مرة في دمشق، وذلك ضمن فعاليات دار المدى للثقافة والنشر عام 2001. وصلتُ إليه عن طريق توصية من والدتي الأديبة ليلى العثمان، إذ كانت تعرفه جيدا، وطلبَتْ من السيد فخري كريم، مدير دار المدى، أن يُعَرّفني على الشاعر.

نشأتْ بيننا صداقة جميلة، كنا نلتقي باستمرار أثناء زياراتي المتكررة إلى سورية، نتبادل النقاش في مقهى هافانا، وسط دمشق، والذي كان يرتاده يوميا للقاء الأصدقاء وللكتابة أيضا. وكنتُ أتواصل معه هاتفيا على الدوام حتى عام 2012، وقد أخبرني في آخر مكالمة بيننا أنه بصدد الانتقال إلى منزل جديد ووعدني بالاتصال لتزويدي برقم الهاتف الجديد، لكن بعدها بأسابيع قليلة بدأتْ الأحداث في سورية وانقطع التواصل بيننا، ولم أنجح في محاولاتي الوصول إليه وبعدة طرق.

في إحدى زياراتي لمنزله في منطقة دُمَّر بدمشق، وتحديدا صباح الخميس الموافق 19/4/2001 أجريتُ معه هذه المقابلة وهي مُسجّلة على شريط كاسيت، وكان معنا ضرغام النواب، ابن أخيه. ولا أدري ما هي الظروف التي تعرّضتُ لها بعد عودتي إلى الكويت، بحيث نسيتُ أمر المقابلة تماما، وظل شريطها حبيس أحد أدراج غرفتي. حتى أن الراحل لم يسألني عنها في مكالماتي المتكررة معه أو لقاءاتنا في الأعوام التي تلت ذلك اللقاء!

عندما سمعتُ نبأ وفاته في مايو الماضي بكيته، وقفزتْ المقابلة إلى ذهني مباشرة، فأسرعتُ إلى غرفتي، ولأنني جدُّ مُنَظَّمة، وجدتُ شريط الكاسيت مستريحا بأمان في مكانه المعهود، تواصلتُ مع الصديق العزيز سعود العنزي في جريدة «الجريدة»، ورحّب كثيرا بنشر المقابلة وشجعني على البدء.

أعارتني والدتي مُسجِّلها القديم، وهي التي مازالت تحب الاستماع إلى أشرطة الكاسيت، وقمتُ بتفريغ الشريط وشعرتُ وأنا أستمع لصوته وضحكاته بالحنين لأيام جميلة جمعَتْني به، وأسِفْتُ أنه لن يرى حوارنا منشورا.

بعد مُضِيّ أكثر من عشرين سنة على إجراء المقابلة، أرى أن أسئلتي قد تكون قديمة، أو ربما لا تصلح ليومنا هذا، لكني رغم ذلك أردتُ نشرها لعل بها إضافة جديدة إلى آراء الشاعر ومواقفه تجاه بعض القضايا الجوهرية.

كما أود التنويه أني لست صحافية ولم أعمل في المجال الصحافي مُطلقاً، ولذلك كانت أسئلتي الموجهة إليه هي تساؤلاتي الداخلية الشخصية التي أردتُ لها جوابا، ومن هنا كانت أسئلة بسيطة، لكن الراحل أجاب عنها بصدق وعفوية أغنيا الحوار الذي أرجو من خلاله أن يتعرف القارئ على محطات جديدة ومضيئة من حياة الشاعر.

علا حسني منصور