جاء الإسلام بمفهوم جديد للإخاء هو الإخاء الإنساني، وليس المفهوم الغربي الضيق الذي نادت به الثورة الفرنسية بعد اثني عشر قرناً من الزمان، الإخاء القبلي أو العشائري أو العرقي أو البورجوازي لإلغاء الامتيازات التي كان يتمتع به النبلاء.

فقد لقب الرسول، عليه الصلاة والسلام، العبدَ بالأخ في قوله: «إخوانكم (أي مماليككم) خولكم، (أي خدمكم) جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يطعم، ويلبسه مما يلبس».

Ad

ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا يقل أحدكم عبدي، أَمتي، وليقل فتاي وفتاتي وغلامي»، ويقول صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس أرقاءَكم أرقاءَكم، أطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم مما تلبسون».

وفي قول الرسول، صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الله في الضعيفين، المملوك والمرأة».

فقد كانت الأخوة في الإنسانية في الإسلام تُستمد من العقيدة الدينية في الوحدانية الألوهية التي قامت الثورة الإسلامية لغرسها في نفوس الناس؛ فالتوحيد في الألوهية هو أعظم وحدة جمعت بين الرسالات السماوية كافة، وبين الأديان جميعاً، فقد قامت رسالة إبراهيم على التوحيد، وقبله نوح وهود وشعيب ولوط ويعقوب وإسحق والأسباط ويوسف وموسى وعيسى.

الرق قديماً وحديثاً

كان الرق في المجتمعات القديمة ثقافة من ثقافات هذه العصور، حيث يجرِّد الإنسان من آدميته، ليصبح سلعة تُباع وتُشترى مع الأرض التي يزرعها أو في أسواق النخاسة.

وكلمة الرق تقترن عادة بالحروب والغزوات، حيث يعتبر الأسرى أرقاء، وكان الرق جزءاً من النظام الاقتصادي في هذه المجتمعات ومن ثقافتها وفلسفتها، فقد برر أرسطو (384 ق.م) بأن الفطرة هي التي جعلت البرابرة عبيداً لليونانيين، وقد كان ثلاثة أرباع الإمبراطورية الرومانية من العبيد، وكان يطلق على العبيد (الهوتس) أي العدو المبين.

وكانت زوجات وأطفال المدين في القبائل الإفريقية يوضعون رهائن لدى الدائن، فإذا لم يوفِ المدين بدينه استوفى الدائن دينه من بيعهم كرقيق.

أي أن الرق كان نظاماً مشروعاً ومعترفاً به في الكون كُله منذ العصور القديمة، ولا يزال سائداً في بعض المجتمعات حتى الآن، ذلك أن المجتمع الدولي لم يُعنَ بمكافحة الرق إلا ابتداءً من القرن التاسع عشر في مؤتمر برلين، الذي طالب حكومات الدول التي شاركت فيه بمقاومة تجارة الرقيق، ثم اتفاقية بروكسل 1890 التي وقعتها 19 دولة، كما قامت عصبة الأمم المتحدة بحملة عالمية لمكافحة هذه الظاهرة وإلغائها، خصوصاً في مؤتمر 1920، بيد أن الرق مازال مستمراً حتى الآن.

الثورة الإسلامية والرق

وقد قام بالثورة الإسلامية كل أطياف المؤمنين بالإسلام من أغنياء وفقراء، من سادة وعبيد، من رجال ونساء، وقد تآخى في هذه الثورة المهاجرون والأنصار، وأصبح المهاجرون يشاركون الأنصار في المدينة زراعاتهم ومساكنهم وطعامهم، حتى يأذن الله لهم بقتال من ظلموهم وأخرجوهم من ديارهم في مكة وشعابها، ولم تكن كغيرها من ثورات أوروبا التي قامت بها الطبقات البرجوازية أو طبقة البروليتايا (العمال) أو طبقة الرقيق في ثورة سبارتاكوس (73-71 ق.م)، عندما هرب وسبعون من رفاقه الأرقاء من السجن، حيث كانوا يتلقون تدريبات ليصبحوا مصارعين يتقاتلون أمام الإمبراطور وجمهور الأسياد المتعطشين لرؤية الدماء، ليجند من الفلاحين المعدمين ورعاة السهول في جنوبي إيطاليا جيشاً قوياً بلغ تعداده 40 ألف مقاتل، تغلب على القوات الرومانية في سنة 73 ق. م، كما تغلب على جيشين رومانيين آخرين في سنة 72 ق. م، وأخيراً في سنة 1971 انتهت آخر ثورة للأرقاء في عهد الرومان.

فالرق يتناقض وعقيدة التوحيد في الإسلام، فالعبودية لله الذي يستحق وحده دون غيره من خلقه العبادة، يقول المولى عز وجل: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ»، (الذاريات – 56)، فالعبودية لله وحده، خالق هذا الكون، وخالق الحياة عليه، الذي ينفرد وحده باستحقاق العبادة، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب».

التدرج في إلغاء الرق

ولهذا كان الإسلام حريصاً على إلغاء الرق من خلال الآيات التي أنزلها سبحانه وتعالى متدرجة، كما فعل القرآن، فقد بدأ بالآية الكريمة: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى»، ثم تبعها بآية أخرى يقول فيها سبحانه وتعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ»، (المائدة- 90). فكان سلاح الإسلام في إلغاء الرق يتكون من شقين: أولهما غرس القيم الإسلامية في نفوس المسلمين، ثانيهما اعتباره تحرير الرقيق عبادة وطريقا إلى الجنة.

أولاً: غرس القيم الإسلامية في نفوس المسلمين

كانت الثورة الإسلامية أول من نادى بالإخاء والحرية والمساواة، فضلاً عن سلامة الصدر من الأحقاد ومن الكبر، كما نادت بالعفاف والحياء والرحمة والجود والكرم والعزة.

وهذه القيم وغيرها من منظومة القيم الإسلامية واعتبارها جزءاً من عقيدة المسلم وإيمانه، هي الآلية الطبيعية لإلغاء الرق، باعتبار أن تلك القيم تتناقض مع استرقاق الإنسان لأخيه الإنسان.

ولم يكن غرس هذه القيم في نفوس السادة وحدهم كافياً لتحرير الرقيق، بل كان غرسها في الأرقاء كذلك آلية لتحريرهم النفسي من الرق، بعد أن تغرس الحرية والمساواة في نفوسهم، قبل تحريرهم وعتقهم، فلم يكن الرق ظاهرة اقتصادية واجتماعية فحسب، بل أصبح في حياة الرقيق بعد السنوات الطويلة التي قضوها في الرق سلوكاً إنسانياً وحاجزاً نفسياً بينهم وبين الحرية، وخير شاهد على ذلك الحرب الأهلية الأميركية بين الشمال والجنوب، والتي أعقبت الثورة الأميركية التي أطاحت بالحكم الإمبريالي البريطاني، فقد راح ضحية هذه الحرب 600 ألف أميركي، ليعلن بعدها الرئيس إبراهام لينكولن تحرير العبيد الذين استمات الشمال في الدفاع عن حريتهم، واستمات مُلاك الإقطاعيات الزراعية في الاحتفاظ بسيادتهم على العبيد في الجنوب، ولم يكن كافياً التشريع الذي أصدره الرئيس الأميركي حينئذ بإلغاء الرق أمام هذا الحاجز النفسي بين العبيد والحرية، فعاد بعض العبيد إلى أسيادهم يطلبون استرقاقهم بعد أن أوصدت أبواب العمل في وجوههم.

ثانياً: تحرير الرقيق طريق إلى الجنة

من قوله سبحانه وتعالى: «وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ»، (البلد- 13،12)، وقوله عز وجل: «وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا» (الإنسان ـ 8)، وكما قدَّمنا، يتبيَّن أن الرق اقترن بالحروب والغزوات التي يسترق فيها المنتصر جنود المهزوم، فأصبح إطعامهم حباً في الله.

وقد فتح الإسلام الباب على مصراعيه لعتق الرقيق في دية القتيل، وفي كفارة اليمين وفي كفارة الظهار، وحرر الأرحام وأمر بتخصيص سهم من الزكاة لتخليص الرقاب من الرق والأسر، واعتبر ذوي الأرحام من العبيد أحراراً، فيقول المولى عز وجل في دية القتيل: «وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ»، (النساء- 92).

وفي كفارة اليمين، يقول المولى عز وجل: «لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ»، (المائدة- 89).

وفي كفارة الظهار، يقول جلَّت قدرته: «الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ» (المجادلة- 2).

وفي سهم الزكاة للرقاب، يقول جلَّت قدرته: «إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ»، (التوبة- 60)

وللحديث بقية إن كان في العُمر بقية.

المستشار شفيق إمام