دعوات الاسترضاء المشؤومة
إن اندلاع الحروب أسهل من إخمادها، ونادرا ما تتبع نهايتها أيّ نص بعينه. ولكن إذا كنت أنت المعتدي، فإن الانتصار الواضح ذا المحصلة الصفرية لمصلحتك نادرا ما يكون خيارا واردا.ومع ذلك، في غياب أي نهاية في الأفق القريب للحرب الروسية - الأوكرانية، يتعالى في الغرب صخب بعض الأصوات التي تدعو إلى منح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين «طريقا فرعية تحفظ له ماء وجهه»، للخروج من هذا الصراع. تبدأ أغلب الحجج بافتراض معيب مفاده أن بوتين لديه سبب شرعي دفعه إلى خوض هذه الحرب، وهذا من شأنه أن يبرر التوصل إلى اتفاق سلام يهدد سيادة أوكرانيا مرة أخرى.والمفترض أن قمة منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) التي استضافتها بوخارست عام 2008 أثارت حفيظة بوتين وغضبه بمنحها جورجيا وأوكرانيا الوعد بالحصول على عضوية الحلف في وقت لاحق. ناهيك بغياب أي خطة عمل لعضوية أي من البلدين، بسبب الافتقار إلى الدعم من جانب ألمانيا وفرنسا.
في حين أن عزوف «الناتو» عن اتخاذ قرار في هذا الشأن أوحى إلى بوتين أنه يجب أن يبذل قصارى جهده لجعل تحقيق مثل هذه الوعود في حكم المستحيل، فإنّ إحجام فرنسا وألمانيا أعطاه الفرصة لدق إسفين بين أعضاء الحلف. وقد اغتنم تلك الفرصة بشنّ حرب في جورجيا عام 2008، واحتلال الأراضي التي لا تزال تحت السيطرة الروسية حتى يومنا هذا. من المحزن لكل العالم أن هذه المناورة صادفت النجاح: فقد اتخذ معظم أعضاء «الناتو» خطوة حاسمة إلى الوراء، متراجعين عن تقديم الدعم السياسي لعملية انضمام جورجيا وأوكرانيا.كان العالم ليصبح في حال مختلفة تماما اليوم لو وضعت قمة بوخارست بالفعل جورجيا وأوكرانيا على مسار الالتحاق بعضوية «الناتو». وكان الغرب ليرد على غزو جورجيا بأكثر من مجرد إعلانات وبيانات، وكانت أوكرانيا لتنجو في الأرجح من إراقة الدماء اليوم.لكن ذلك لم يحدث، وفي حين حذّر المسؤولون في جورجيا خلال الفترة من 2008 إلى 2009 من أن إفلات روسيا من العقاب على الغزو والاستيلاء على الأراضي من شأنه أن يؤدي إلى مزيد من أعمال العدوان ضد أوكرانيا وغيرها، فقد كان مصير تحذيراتهم التجاهل باعتبارهم يهذون ذعرا أو لا يهمهم سوى بقائهم السياسي بعد حرب كارثية.وبصفتي سفيرة جورجيا إلى الاتحاد الأوروبي خلال الفترة من عام 2005 إلى 2013، كثيرا ما كان كبار صناع السياسة في أوروبا يقولون لي إن روسيا لن تجرؤ أبدا على ضمّ شبه جزيرة القرم أو غزو أوكرانيا.ولم يكتفِ الاتحاد الأوروبي بتجاهل مناشداتنا بشأن فرض العقوبات ومراجعة استراتيجية الطاقة التي تعتمد على روسيا بدرجة كبيرة؛ بل راح بعض المسؤولين الأوروبيين يختلقون الأعذار لروسيا. وعندما أطلق الاتحاد الأوروبي بعثة دولية مستقلة لتقصي الحقائق بشأن النزاع في جورجيا، نجحت روسيا في التلاعب بالتقرير النهائي، بما يتناسب مع مصالحها الخاصة. ثم تولت إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما السلطة، فلاحقت عملية «إعادة ضبط العلاقات» المشؤومة مع روسيا، مرسلة إشارة لا لبس فيها بأن بوتين لن يواجه أي مساءلة حقيقية عن شن حرب كان هدفها اقتطاع جزء من جورجيا.في عام 2012، أبعد الناخبون الرئيس الجورجي ميخائيل ساكاشفيلي، الذي دأب بوتين على وصفه بأنه خصم شخصي، من منصبه، واعتبر بعض المراقبين في الغرب هزيمته على أنها علامة على ضرورة تطبيع العلاقات مع روسيا بشكل أكبر.لم ينتبه أحد في ذلك الوقت، كما بدا الأمر، إلى أن حكومة ساكاشفيلي المؤيدة للغرب رحلت لتحل محلها حكومة قِـلّة موالية لروسيا، والتي عرقلت منذ ذلك الحين تقدّم جورجيا نحو الديموقراطية والاندماج في الغرب. وعلى مدار العقد الأخير، قوّضت الحكومة الجورجية مشاريع ذات أهمية استراتيجية كبرى لحلف شمال الأطلسي في منطقة البحر الأسود - مثل ميناء Deep Sea في أناكليا - في حين أظهرت دعما فاترا لأوكرانيا في كفاحها من أجل البقاء. على نحو مماثل، نجد أن القرار الذي اتخذته ألمانيا بالمضي قُدما في بناء خط الأنابيب نورد ستريم 2 - أولا في أعقاب غزو بوتين لجورجيا، ثم مرة أخرى بعد ضمه غير القانوني لشبه جزيرة القرم - يبرز الآن باعتباره خطأ استراتيجيا فادحا (وإن لم يكن الوحيد بكل تأكيد).كل هذه العثرات ساعدت في الدفع بنا إلى حيث أصبحنا اليوم. وكما حَـذَّرَ الرئيس الأميركي جو بايدن أخيرا، فإن احتمال نشوب «حرب فاصلة» نووية يلوح الآن في الأفق أكبر من أي وقت منذ أزمة الصواريخ الكوبية التي يمرّ عليها 60 عاما هذا الأسبوع.وبينما يدرس الغرب الخيارات المتاحة له لتجنب حرب عالمية ثالثة، يتعين عليه أن يتفادى تكرار الأخطاء التي ارتكبها عام 2008، عندما لم يفعل عمليا أي شيء في التصدي لحرب العدوان التي شنها بوتين ضد جورجيا، فبادعائه أنه ضمّ مساحات شاسعة من الأراضي الأوكرانية من خلال استفتاءات صورية زائفة، وزعمه أن أوكرانيا دولة زائفة، لم يُخف بوتين نواياه النهائية. ولكن وفقا لأولئك الذين يدعون إلى مفاوضات سلام، قد «يتصالح» بوتين مع فكرة استمرار وجود دولة أوكرانية ثانوية ضعيفة إذا كان ذلك يعني أنه قادر على الاحتفاظ بالأراضي التي ضمّها بشكل غير قانوني، وإذا تعهّد حلف شمال الأطلسي بعدم قبول عضوية أوكرانيا مطلقا.الواقع أن مثل هذه الحجج لها وقع الموسيقى على أسماع بوتين. إنه يراهن على الشتاء القارس البرد، وارتفاع أسعار الطاقة، وإجهاد الحرب، كعوامل من شأنها أن تقوّض وحدة الغرب وتجعل نداءات الاسترضاء غير قابلة للمقاومة. كلما تضاءلت فرصة تحقيق نصر عسكري في الوقت المناسب (من أي من الجانبين)، تزايد الزخم الذي قد يدفع الدبلوماسيين الغربيين إلى التدخل والبدء في دفع أوكرانيا إلى التفاوض والتسوية.لكن كان المفترض أن تثبت حرب جورجيا عام 2008، وضم شبه جزيرة القرم عام 2014، بحلول الوقت الحاضر، أن الاسترضاء لا يؤدي إلا إلى مزيد من العدوان. السبيل الوحيد الذي يستطيع الغرب من خلاله تأمين السلام هو الحفاظ على وحدة أوكرانيا والاستمرار في دعمها (عسكريا، واقتصاديا، ودبلوماسيا) إلى أن تستعيد كل أراضيها.هذا يعني عدم الاستسلام لتهديدات بوتين النووية (التي تنضح باليأس)، والامتناع عن تشجيع أي صفقات قصيرة الأجل قد تساعده في خلق وهم النصر. فمثلها كمثل السرطان الذي لم يُـعالَج بشكل كامل، ستعيد روسيا ببساطة تنظيم صفوفها وتضرب من جديد بقدر أكبر من العدوانية إذا استرضينا بوتين.لقد دفعت أوكرانيا بالفعل ثمنا باهظا من أجل حريتها، ومن أجل قضية الحرية في كل مكان. وأقل ما يتعين على الغرب أن يفعل هو أن يعطيها الفرصة لتأمين سلام حقيقي دائم. يبدأ هذا بعدم بيع أوكرانيا لأولئك الذين ينكرون حقها في الوجود.* رئيسة بعثة جورجيا إلى الاتحاد الأوروبي سابقاً، وعضوة برلمان جورجيا والسكرتيرة السياسية لحزب Lelo for Georgia.* سالومي ساماداشفيلي
Project Syndicate
بوتين قد يتصالح مع فكرة استمرار وجود دولة أوكرانية ثانوية ضعيفة إذا كان ذلك يعني قدرته على الاحتفاظ بالأراضي التي ضمّها
عام 2008 حذّرت جورجيا من أن إفلات موسكو من العقاب من شأنه أن يؤدي إلى مزيد من أعمال العدوان ضد أوكرانيا وغيرها
على الغرب أن يعطي أوكرانيا الفرصة لتأمين سلام حقيقي دائم يبدأ بعدم بيعها لأولئك الذين ينكرون حقها في الوجود
عام 2008 حذّرت جورجيا من أن إفلات موسكو من العقاب من شأنه أن يؤدي إلى مزيد من أعمال العدوان ضد أوكرانيا وغيرها
على الغرب أن يعطي أوكرانيا الفرصة لتأمين سلام حقيقي دائم يبدأ بعدم بيعها لأولئك الذين ينكرون حقها في الوجود