هذا اللقاء مع الشاعر العراقي الكبير مظفر النواب أجري في 19 أبريل 2001، وها هو بعد ما يزيد على 20 عاماً، يرى النور على صفحات «الجريدة». استعرض النواب في ذلك اللقاء، الذي تم في ضاحية دمر بدمشق، جزءاً من تاريخه ونشاطاته الفنية والاجتماعية والسياسية وهواياته، والأشخاص الذين أثروا في حياته، سواء من عائلته أو أصدقائه، سارداً مواقف من نشأته في حي الكرخ ببغداد، وكيف كانت طفولته، وبواكير موهبته في الكتابة منذ المرحلة الابتدائية، وما تبعها من مراحل، ثم انتقل إلى إضاءة الشاعر مساحة من نشاطاته الأدبية والسياسية في المرحلة الثانوية والجامعية، ومشاركته في التظاهرات أثناء الحكم الملكي وقدوم البعثيين إلى الحكم، فضلاً عن معارضته لكثير من الأفكار السياسية التي كانت سائدة في العراق آنذاك، وكانت الصراحة تتجلى في أرقى صورها من خلال تجاوبه مع الأسئلة، مما منح اللقاء رونقاً خاصاً بسبب عفوية الشاعر في الإجابة بكل أريحية وبتفاصيل دقيقة لكل جزئية، نضعها بين يدي القارئ ليطلع على محطات جديدة من حياة الشاعر، وفيما يلي تفاصيل الحلقة الثانية:
• ما تأثير المرأة في مسيرتك الشعرية؟
- نعم جذور التأثير من هناك، جو البيت الذي به ألفة شديدة تجاه الصبايا اللاتي يأتين من المدرسة ويلعبن معنا، نعمل مسرحيات وحفلات نعزم خلالها الكبار ليتفرجوا علينا، وهذا لا يناقض خجلي الذي تحدثت عنه سابقا، لأنني في البيت أشعر بالحرية لاعتيادي التحدث مع والديّ بشكل جيد. ومن الصور التي أتذكرها، أنه في موسم عاشوراء، يتم تقديم معركة كربلاء كما ذكرت سابقا، ويوجد عزاءات حسينية وهي عزاءات الحسين، وهذه مقتصرة على النساء وحدهن. عندما كنت طفلا كان شعري طويلا، وبقيت إلى الجامعة بشعري الطويل، ولما كنت طفلا كانوا يُلبسونني أقراطا، وهذه من العادات في العراق، فأتذكر أنه في مواسم كربلاء النسائية نأتي نحن الصغار وكنت أضع في فمي خمس أو ست سيجارات وأشعلها وأوزعها على النساء، ومن ذلك الوقت كنت أستغرب كيف يدخن الناس لأني أكح عندما أولعها، ومن ذلك الوقت لم أدخن السجائر، كما أن الجو في البيت ساعدني ألا أحب التدخين، فوالدتي لم تكن تدخن، ووالدي يدخن ربما سيجارة واحدة في اليوم قبل النوم. فكنت أولع السجائر وأوزعها على النساء في جو كله أنوثة، ولهذا تأتي أصداء هذه الأجواء إلى الآن.كان يوجد امرأة تقرأ عزاء الحسين للنساء، ويبدأن باللطم، وهذه المشاهد كلها في بالي وراسخة في ذهني، وتبدو هنا وهناك من خلال القصائد، فالتعبير عن المناحة التي تقوم بها المرأة واضح في قصائدي.بيتنا يطل على النهر مباشرة، على دجلة، وشرفة البيت تدخل في النهر بحيث يحيط بها الماء من جهتين على الأقل، إذا حصل فيضان يصعد الماء إلى حافة البيت، وكنا نمد أيدينا نغرف الماء، وطبعا دجلة في السابق كان مختلفا، الآن تركيا بنت سدودا فضعف ماء النهر، كان النهر مخيفا بالفيضانات، وكثيرون غرقوا بها، فبقي دوي فيضان النهر في أذني باستمرار، ورهبة النهر، تماما مثل هدوء النهر ووداعته في الصيف، والذي نسميه موسم الصيهود، فقد كان الصيف مفرحا بالنسبة لنا لأننا ننزل نسبح عندما يقل الماء، كنا أطفالا كثرا، وتعلمنا السباحة مبكرا كي لا نغرق. هذا الجو الذي فيه النهر كان واضحا في الكتابات، فأحيانا تجدين شاعراً عالمه عالم صحراوي، شاعراً عالمه عالم صلب، أنا عالمي مائي، به سيولة وترقرق واضح، وخصوصا في القصائد الشعبية بالعامية العراقية. هذا بسبب موقع البيت على النهر، كما يوجد فضاء ممتد ليس به أشياء تحجب الرؤية وتحد من الأفق، كما كانت الدولة في الضفة الثانية للبيت، حيث يطل على الرصافة التي كانت مركز الدولة وكانت ساعة بغداد المشهورة أمامنا، ورنينها كان يبدو هنا وهناك في القصائد.المهم أن جو الاختلاط بالصبايا والنساء كان مبكرا في حياتي بحيث لم يشكل أي إشكالية، فأنا حتى الآن أتحدث مع المرأة بود وصداقة دون أن تسيطر فكرة أن المرأة عالم جنسي فقط، وأستغرب جدا عندما أجد رجلا لديه نظرة عدائية للمرأة.في سن مبكرة، غير مرحلة الطفولة والشباب والمراهقة حيث كان عالمي مختلطا تقريبا وكان التركيز على الدراسة، يعني تقريبا في سن 22 أو 23، كانت لي أول علاقة عندما عُينت في التفتيش الفني بعد ثورة تموز (يوليو)، صارت لي أول علاقة حب مع صبية كانت طالبة في كلية الطب، كانت تراجع دائرة التفتيش وصارت بيننا علاقة، كنت في أحد أيام الجمع، أظن في 13 رمضان، كنت سأذهب إلى بيت الشاعر بلند الحيدري وزوجته التي لا تتذكر الحادثة، لكن بلند يتذكرها، طلبت منهما أن يكلما الفتاة لخطبتها لي يوم الجمعة. كانت يسارية من عائلة معروفة، وفي اليوم نفسه حدث انقلاب البعثيين، ولذلك عندي حقد مضاعف عليهم، في هذا الانقلاب ألقي القبض على الفتاة، عندما نُفّذ الانقلاب كان أول من قُتل عمها الذي كان ذا مركز معروف، وأنا اختفيت فترة ثم تنكرت بزي فلاح عراقي وهربت إلى إيران في عام 1963. حدث الانقلاب في شباط (فبراير)، وأنا هربت بعد ثلاثة أشهر تقريبا إلى إيران، وقصة عبوري إلى إيران قصة طويلة، وطبعا بعد اعتقالها انقطعت العلاقة بيننا.• كيف بدأ توجهك السياسي؟
- أسرتي كانت منفية سياسيا، جذورها سادة ينتمون لآل الرسول، ويبدو أنه مع الفتوحات هاجرت للعراق ثم أيام اضطهاد العباسيين توزعت، كان يوجد رجال دين في إيران، معممين بالعمامة السوداء التي تعني أنهم من آل البيت، أما العمامة البيضاء فتعني أن الرجل فقيه أو شيخ، فبسبب الاضطهادات وغيره هاجرت أسرتي إلى مناطق من الهند، وتحديدا في كشمير ومدينة لكناو، وحكموا هذه المقاطعة لمدة طويلة، إلى زمن الاحتلال البريطاني للهند إذ قاوموا الاحتلال، ليس عندي معلومات كثيرة سوى ما كنت أسمعه من جدي ووالدي. بعد انتصار البريطانيين نفوا عائلتي وخيروهم بين عدد من البلدان فاختاروا العراق لوجود العتبات المقدسة بها، ولأنهم كانوا في العراق من قبل، وصلوا للعراق بين أعوام 1850 – 1870، سكنوا في بغداد وعُرضت عليهم في فترات بعض المناصب، مثل جدي، لكنه رفض، وكانت عائلتي واحدة من ست أو ثماني عوائل عراقية قديمة الجذور، وامتزجوا بالجو العراقي والبيئة العراقية، هذا النفي الذي بدأ بخروجهم من الجزيرة ثم هروبهم إلى العراق ثم إلى شمال الهند ثم نفيهم مرة أخرى، هناك تاريخ يُسرد في العائلة عن هذا النفي وعن مقاومتهم للبريطانيين، وكان هذا السرد يؤثر بي وأنا طفل، ولأن بيتنا كان في منطقة شعبية والجو العراقي المحتدم باستمرار بالمظاهرات وغيرها، بدأتُ أشارك بالمظاهرات مع أصدقائي الطلاب، كان أهلي يخافون علي، وعندما أتأخر يبحثون عني في المستشفيات مخافة إصابتي بطلقة. ورغم خجلي انتُخبتُ ممثلا لصفي، كنت في الصف الرابع الثانوي، وصرت ممثلا للصف الرابع في اتحاد الطلبة، ولأنه عُطلت الدراسة بسبب الاضرابات والمظاهرات، أغلقت الدولة المدارس الثانوية وكنت أدعو الطلبة للاجتماع في بيتنا، ونقرر للخروج بالمظاهرات وعمل الاضرابات، فصار عندي احتكاك بالطلاب في العصر الملكي. ثم تخرجتُ والتحقت بكلية الآداب، وقتها لم يكن هناك جامعات في بغداد وإنما كليات، قدمتُ طلبا إلى كلية الآداب وقُبلتُ، وبسبب الإضرابات فُصلتُ مع مجموعة من الطلبة. كانت كلية الآداب قد أنشئت حديثا، قبلها كانت دار المعلمين العالية هي التي تُخرِّج مدرسين، فأنشأوا كلية الآداب حتى يُخرّجوا مدرسين من العوائل المعروفة فتحولت هذه الكلية إلى بؤرة مقاومة قوية، بعدها فُصلنا، العميد عبدالعزيز الدوري، حاليا موجود في الأردن وهو مؤرخ واسع المعلومات، علاّمة في اختصاص التاريخ الاسلامي، كان يعطينا مطلق الحرية داخل الفصل لمناقشة أي شيء يتعلق بالتاريخ الاسلامي وغيره، خارج الصف كان رسميا بسبب تكميم الدولة، وهو كان جزءا من الدولة.كان مستوى الدراسة آنذاك جيدا جدا ودرسونا أساتذة ممتازون، هذا مكنني من متابعة التاريخ الاسلامي بشكل جيد وبنوع من الولع، ولع لفهم ما يدور من صراع وغيره. هذا ألقى بظلاله على فهمي للصراع المعاصر، لأن فهم التاريخ بشكل جيد يساعد على فهم الوقت المعاصر وقراءة ما سيأتي بشكل جيد أيضا، ورغم الفصل أعادنا العميد بعد تدخله ورجعنا للكلية، لكن لما تخرجنا رفضوا تعييننا لفترة سنتين تقريبا، ثم جاءت حكومة للتهدئة، فتم تعييننا، وقد عينت في مدينة قريبة من بغداد على مسافة ساعة تقريبا، مدينة المسيّب، درّستُ بها وكان قسم من الطلاب أكبر مني، فأحيانا عندما أقف كانت تأتيني الضحكة لأنهم أكبر مني وأنا أدرسهم، فكنت أدير وجهي للسبورة كي لا يروني أضحك بلا معنى، وبدأت بالتدريس وصار الطلاب أصدقائي أكثر من كونهم طلابا، أحاورهم بشؤونهم الخاصة، خصوصا المراهقين منهم، نتكلم بالقضايا التي يجب أن يعيها المراهق كي تكون نشأته جيدة. وكنا نتكلم بالسياسة خارجا عن المناهج، فتم فصلي أنا ومجموعة من المدرسين، وظللنا مفصولين حتى ثورة تموز (يوليو)، ورجعنا بعد الثورة، وكنت دائما أُفصل وأرجع أنا ومجموعة من المدرسين لفترة تقارب ستة أو سبعة أشهر. في تلك الفترة كان الجو في العراق ينذر بالتغيرات قبل ثورة تموز، فحاولتْ الحكومة أن تبعدنا عن بغداد، نحن المفصولين والمثقفين السياسيين، فأخذونا إلى الخدمة العسكرية ضمن دورات إلى محافظة ديالى في مدينة صغيرة اسمها السعدية، عملنا اضراباً داخل الجيش كانت عقوبته الاعدام، حكم على عدد من المجموعة بالاعدام، لكن لم يُحكم عليّ معهم. كان قسم من مدرسي الدورات من العسكريين، من ضباط ثورة تموز فيما بعد، وقسم من الطلاب مثل الأطباء كانوا عسكريين معنا ومفصولين أيضا، فاتحوني بالانتماء للحزب الشيوعي العراقي، فكنت مترددا بسبب موضوعين: الأول أن الذي يكرس نفسه للعمل السياسي يجب أن يتفرغ له تماما، ولم أجد عندي القدرة على التفرغ في هذا المجال بسبب وجود أشياء أخرى تشغلني أيضا، كما أعتقد أن القائد السياسي كي يخلص في عمله ويُنجز، يجب أن يكون وقته للآخرين ولا وقت لديه لنفسه.الأمر الثاني هو الجانب الديني، فأجواء بيتي كانت دينية رغم أن القليل من الأهل كانوا يصلون.بعد ذلك بدأت الاصطدامات تنشأ ويُضرب الناس بالرصاص أحيانا، وحصلت وثبة 1948 وانتفاضة 1952 التي شاركتُ بها وقُتل عدد من الطلاب وآخرين، فأدركت أن أكثر من كان يدافع ويقاوم هم الشيوعيون فانتميتُ للحزب الشيوعي العراقي، أعتقد بين عامي 1952 – 1953، لكن العمل لم يكن منتظِما من حيث الاجتماعات ولكن يحدث انقطاعات.وأخذتني أجواء كلية الآداب، أردنا إنشاء مرسم بسبب ولعي بالرسم مع بعض الطلبة والطالبات، وصادف مجيء حافظ الدروبي، رسام معروف من الجيل الأول من الرسامين العراقيين، جاء من إنكلترا وعُين في كلية الآداب رغم أنه لم تكن هناك حصص رسم في الكلية، ففكرنا أن نؤسس مرسما. وحصلت قصة طويلة في هذا الموضوع إذ ذهبنا للعميد وعرضنا فكرتنا وتعلل بعدم توفر غرف زائدة لإعطائنا إياها، رغم أنه كان يرغب بإنشاء مرسم لكن لا يوجد مكان بسبب ضيق الكلية. كان يوجد بناية قديمة فيها مرافق مهملة في حديقة خارج الكلية، ذهبنا نحن الطلاب والطالبات وأخذنا فؤوسا وأدوات حفر، قمنا بعمليات هدم وردم وتعديل، ورجعنا للعميد وأخبرناه بوجود مكان للمرسم. وفعلا تم إنشاء المرسم، وأتذكر أن الارسالية الأولى من الألوان تبرعت بها عمادة الكلية وأحضرتها من انكلترا، لأن الألوان في بغداد كانت قليلة آنذاك وليس مثل الآن، ولا أقصد الآن بمعنى اليوم لأنها ربما اليوم انقطعت تماما، المهم أنشأنا المرسم وفرح به العميد. ثم كان للأستاذ حافظ الدروبي تأثير هائل على طلابه، كان بسيطا ومتواضعا، وعندما يرسم طالب لوحة جيدة لم يكن لديه مانع أن يقول له (هذه أحسن من لوحتي)، رغم أنه رسام هائل، يرسم البورتريه (صور شخصية) ومناظر طبيعية، والأستاذ حافظ هو أول من جعلني أعي أن عندي قدرة لونية، كان يسميني (كروماتيك)، يعني عندي قدرة لونية هائلة، ويستغرب كيف أرسم الأشياء بتوهج، كأن أقف ضد الشمس مثلا، فالرسام عادة يقف مع الشمس. هذا التوهج كان يثيرني بالأزهار عندما تضربها الشمس وتنعكس على عيني، فتعلمت معه أشياء كثيرة رحمه الله، فمثلا الاختلاط بعالم الكبار تم من خلاله، كان يأخذنا معه إلى نادي المحامين وغيره، وهناك تعرفت على مجموعة كبيرة من الطلاب، منهم النحات ومنهم الرسام، ثم دخلت عالم الرسامين وتعرفت على الرسامين المعروفين من أمثال عطا صبري، وجواد سليم، وفايق حسن.من ميزات العهد الملكي الحقيقية في بغداد، لم يكن كله معتما، ربما الجانب السياسي والهيمنة البريطانية على النفط، كنا نحن الطلاب بعيدين عن هذا، لكن الأجواء الليلية كانت تحدث خلالها لقاءات وسهرات، كل أسبوع في بيت فنان مثلا، فتجدين الرسام والنحات وعازف العود، تجدين جواد سليم يجلس مع فايق حسن أو حافظ الدروبي أو كلهم مع سلمان شكر يعزف على العود، ونحن بعض الطلاب كنا قد بدأنا بكتابة بعض القصائد وغيره وأيضا كان يشاركنا أطباء ومسرحيون، فالجو كان به تنوع، عالم لون وعالم نغم وعالم كلمة. هنا يصبح تخزين المعلومات كبيراً ومتنوعاً، وهذه الفنون كانت متداخلة بحيث ينفذ المسرح على النحت، والنحت ينفذ على الرسم، الرسم ينفذ على الكلمة، وللكلمة مداها. هذا كله كان يلعب دوره ويؤثر عليّ بالكتابة.بقيت مع الحزب الشيوعي لفترة طويلة بسبب المذابح التي تمت بعد عام 1963 بعد مجيء البعثيين للسلطة، صار موضوع التحدي ضروريا بالنسبة لي، فاستمررت مع الحزب الشيوعي بحكم هذا التحدي، وكنتُ معهم في الشأن العام كالصراع ضد السلطة، الواقع الاقتصادي وموضوع النفط، ولكن ظل عندي جانبي الخاص الذي يتعلق بالمعتقَد الخاص بي بسبب تربيتي وقناعاتي الممتدة حتى الآن، والتي كنت أناقشها مع القياديين بالحزب. وأنا أعتقد أنه لا يوجد هذا التناقض الذي تحاول الرجعية تصويره بالنسبة لليساريين أو الديموقراطيين، وأعتقد أن الذي يفكر من التيار الديني يكسب أكثر عندما يكون أكثر تنورا وانفتاحا، ويفهم العصر أيضا بجانب فهمه للتراث والتاريخ. في الواقع الأوروبي مثلا، الكنيسة طورت من شأنها، بحيث لا تصير بينها وبين الأجيال الجديدة جفوة، ومع هذا لم يتمكنوا من ردمها بسبب يتعلق بالجو الكنسي وغيره. الآن عندما نأتي لواقعنا العربي، النضال الذي يخوضه حزب الله في جنوب لبنان مثلا، وحواره مع كل الفصائل، بما في ذلك اليساريون والشيوعيون، فرجل مثل محمد حسين فضل الله، كرجل علامة أقصد، لا مانع لديه من محاورة أي إنسان ماركسي أو غير ماركسي، بغية الوصول إلى الحقيقة، وكل دين هدفه الوصول إلى حقائق معينة. هناك تيارات تبحث عن سعادة الإنسان، وكذلك الدين يبحث عن سعادة الإنسان، وبالتالي توجد قواسم مشتركة، ولا تزال هذه قناعتي أنه توجد قواسم مشتركة، لا سيما أن الهجمة واسعة وعريضة، فالغرب وأميركا جبهة واسعة للهيمنة علينا، فلابد أن تكون لدينا جبهة واسعة أيضا. يعني القوى العربية والاسلامية لابد أن تجد قواسم مشتركة على الأقل في هذه المرحلة من الصراع، قد تأتي مراحل أخرى تحدث فيها خلافات، هذه قضية أخرى ليس وقتها الآن.فيتنام أدركت هذه الحقيقة أيام «هوتشي منه» الذي كان قائدا عظيما في الحقيقة، كان قسم من البوذيين، احتجاجا على الوجود الأميركي، يحرقون أنفسهم في الساحات العامة، ويناضلون بجانب القوى العلمانية ضد عدو مشترك اسمه أميركا، والتي تتضح شراستها الآن في الأرض المحتلة، فهناك ارتباط عضوي واضح جدا بينها وبين الصهيونية واسرائيل، ولذلك نحن نحتاج هذه الجبهة الواسعة، وأنا من هذا الاتجاه، فأصدقائي وعلاقاتي الآن تمتد من سياسيين، ماركسيين، دينيين، وألتقي بمحمد فضل الله وأتحدث مع المقاومة الاسلامية في لبنان، يعني حيثما هنالك أفق للتفاهم والحوار وعدم اللجوء إلى العنف في حل الحوارات الداخلية، وإنما السبيل هو الدعوة بالحسنى، «لكم دينكم ولي دين»، هذه من الأوّليات في الحقيقة. ومن زمان صار عندي قناعة أنه بالنسبة للشاعر أو الرسام أو الفنان، من الأفضل أن يكونوا مع تيار الخط العام للتطور، دون الانتماء لأيديولوجية أو فصيل معين، ولا أعمم هذا على كل الناس، لأن الانتماء ضروري لدى البعض من أجل تنظيم العمل والمقاومة، لأنه بدون تنظيم قد لا نحصل على شيء.بعد هروبه إلى إيران حُكم عليه بالإعدام و«البراءة» سجنته
يقول النواب إنه بعد هروبه ومجموعة من زملائه إلى إيران، «قبض علينا بعد أشهر من الهروب إليها وسلمتنا للسلطة العراقية، وأعتقد أن إيران استلمت لاجئين ايرانيين كانوا في العراق فصار تبادل بين الجانبين، حُكم عليّ بالإعدام وخُفّض إلى المؤبد، الذي كان عشرين سنة في العراق، كنا مجموعة مدينة الكاظمية في قفص الاتهام، ربما كان عددنا سبعين رجلاً اتُّهِمنا بمقاومة الانقلاب، وطُلب منا الاختيار بين الحكم المؤبد أو إطلاق السراح في حال كل واحد فينا يشتم الحزب الشيوعي أو الأحزاب الأخرى، فرفضتُ».ويضيف: «كان موقفي مفيدا لأنه أثر على الناس البسطاء الذين كانوا معنا في الدعوة، أغلبهم رفض أن يشتم ما عدا اثنين أو ثلاثة أفرجوا عنهم، ثم أخذوني إلى غرفة جانبية وحاكموني على قصيدتي (البراءة) التي ألقيتها بالعامية بالسجن ثلاث سنوات وأخذوني إلى سجن صحراوي».ويتابع: طبعا في ذلك الوقت كانت بعض قصائدي منشورة عندما كنت عضوا في اتحاد الأدباء العراقيين بعد ثورة تموز (يوليو)، نُشرت أولى القصائد العامية في مجلة (المثقف) دون علمي، وأخذها صديق من دفتري، وعملت ضجة استغربتُ منها، حتى أن سعدي يوسف كتب مقالة في (المثقف)، ولم أكن أعرفه وقتها، قال إن شعرنا العربي الحديث تزحف عليه (الكوزموبوليتي)، بمعنى غير الأممية وعدم الهوية وافتقاده لخصوصية معينة. وهذه القصيدة كما كتبتُ وقتها زهرة نادرة في بستان شعرنا العربي، وإنني أضع جبين شعري على طريق (الريل وحمد)، وهو اسم القصيدة المنشورة، فصار نقاش عنها في اتحاد الأدباء، وقسم من أدباء العامية قالوا إنها قصيدة مسروقة، وصارت حولها ضجة كبيرة. كما تم قبولي عضوا في اتحاد الأدباء بدون أن أقدم طلبا، فبدأت أنشر في جريدة للشاعر كاظم السماوي اسمها (الحضارة) أو (الحضارة والإنسانية) لا أتذكر، كما نشرت في بعض الصحف العراقية ومجلة (المثقف).