تشغل قضية السكن حيزاً كبيراً في النقاش العام، وتبدو آخذة بالتشعب والتعقيد أكثر رغم المعالجات المستمرة، بدليل طول قائمة ومدد الانتظار لدى المؤسسة العامة للرعاية السكنية، وارتفاع الأسعار والإيجارات، وتقلص الخيارات السكنية، مما يدعو إلى مساءلة الإطار العام الذي ينتج تلك المعالجات، وما إذا كان لها دور في تعميق المشكلة. هذا ما يستقصيه تقرير بحثي بعنوان «إسكان الكويتيين: قراءة في النموذج القائم وتبعاته على القدرة على تحمل تكلفة السكن وجودة الحياة»، شاركت بكتابته ضمن فريق بحثي بدعم من مؤسسة الكويت للتقدم العلمي.ينحصر الإطار العام السائد للقضية في حدود احتكار الدولة لتوفير السكن الخاص أولاً، وثانياً الخلط بين مفهومي السكن كسلعة مركبة تلبي حاجة أساسية، والعقار كأصل استثماري ووسيلة لتكوين الثروة، وثالثاً المعالجات الضيقة الرامية إلى تعظيم مساحة البناء والعائد الإيجاري على حساب جودة الحياة، وأخيراً النزعة إلى تشريع المزيد من القيود على العرض والمرونة في القطاع السكني عند فشل تلك المعالجات. هذا الإطار يقود إلى مغالطات تشوِّه النقاش العام حول القضية، وتضلل محاولات معالجتها.
مغالطات التشخيص
مَنْ يواجه مشكلة في تملك السكن؟ الإجابة عن هذا السؤال تدحض التشخيص السائد بأن المشكلة هي تأخر التوزيع من قبل المؤسسة، لأنه يحصر الطلب على السكن في حوالي 130 ألف أسرة تنتظر دورها في طابور المؤسسة أو وزع لها ورقياً، وهو توصيف معيب للطلب لسببين: أولاً وجود أسر في الطابور لا تواجه المشكلة؛ إما لقدرتها على الشراء، أو لامتلاكها سكناً مسجلاً صورياً باسم آخرين، وثانياً وجود فئات غير مستحقة للرعاية السكنية (كبعض فئات المرأة وغير المتزوجين والمستفيدين سابقاً ممن تغيَّرت احتياجاتهم السكنية) ترغب بالتملك أيضاً، لكنها لا تستطيع الشراء. إذن، التشخيص الصحيح والجامع لكل مَنْ يواجه المشكلة هو عدم القدرة على تحمُّل التكلفة، إذ يتعيَّن على الأسرة الكويتية في عام 2019 ادخار دخلها بالكامل لعشرة أعوام لتوفير مبلغ الشراء، وهي ضعف المدة لمدينة الرياض على سبيل المقارنة. تضخم الأسعار هو نتيجة مباشرة لشح العرض السكني، إلا أن تشخيص أسبابه تشوبه مغالطات أيضاً، فبينما توجَّه أصابع الاتهام عادة إلى احتكار الأراضي والمضاربة بها، لا يتعدَّى عدد قسائم السكن الخاص المحتكرة 1٥ ألفاً، وفق إفادة مقرر اللجنة الإسكانية البرلمانية السابق، أي تكفي طلبات إسكانية جديدة لسنتين فقط لالتهامها، ولن يحدث طرحها بالسوق أثراً يُذكر. أما احتكار الدولة للأراضي خارج المنطقة الحضرية، فهو تشخيص وجيه، لكن تطويرها ليس ممكناً في المدى القصير، الغائب في النقاش العام هو مسؤولية التشريعات واللوائح القائمة في تقييد العرض داخل المنطقة الحضرية الحالية، كحظر التطوير العقاري في السكن الخاص، وفصل استخدامات الأراضي والحدود الدنيا لمساحات القسائم والقصوى للكثافة، والتي تستمر دون مراجعة، رغم تراكم الدليل العلمي الذي يؤكد تأثيرها المباشر في رفع الأسعار وتقليص الخيارات السكنية.أما جانب الطلب، فيتمثل دوره في المشكلة عبر التشويه للحوافز الاقتصادية الناتج عن بعض السياسات من خلال قناتين: الأولى بتوجيه الرعاية السكنية للجميع بلا عدالة ودون اعتبار للحاجة، حيث مع تضخم الأسعار ترتفع ثروة الأسرة أضعافاً فور استلامها القسيمة الحكومية، فغدت كالجزرة المعلقة أمامها تشوش عليها عملية اتخاذ قراراتها السكنية، حتى صار بعض المقتدرين يفوت فرصاً للشراء في سبيل الظفر بهذه الجزرة، مما يؤدي إلى زيادة الطلب على الإيجار، والثانية بالمعاملة التفضيلية للسكن الخاص، كرفع نسب البناء والإبقاء على تعرفة الكهرباء المنخفضة، مما جعل القطاع جاذباً للمستثمرين العقاريين. إذن يستخلص مما سبق أن جوهر المشكلة يتمثل بهيمنة الدولة عليها، من خلال احتكار المؤسسة لتوفير السكن الخاص، وتغييب القطاع الخاص، والتشريعات واللوائح التي تقيد العرض وتشوه الحوافز المؤثرة بقرارات الأسر والمستثمرين، مما نتج عنه مشكلة عدم القدرة على تحمُّل تكلفة السكن ومحدودية الخيارات السكنية وتردي جودة الحياة.مغالطات الحلول
ليس مستغرباً أن تنحصر المعالجات في ذات الإطار الضيق المقتصر على تحرير الأراضي الجديدة لمصلحة المؤسسة، وضخ المزيد من المال في برنامج الرعاية السكنية، مما يعني الاستمرار بذات النهج الذي أدى إلى تفاقم المشكلة أساساً بالاعتماد على المؤسسة، رغم إخفاقاتها، وتغييب آليات السوق في توفير الخيارات السكنية لجميع الفئات الراغبة بالتملك، وفرض القيود على الكثافة ومساحات الأبنية وفصل استخدامات الأراضي والزحف العمراني الأفقي، مما يحد من العرض، ويحصر الخيارات المتاحة في الفيلا المنفصلة عالية التكلفة، ويعمق الاعتماد على السيارة، مدفوعاً بهدف تعظيم المساحة والعائد الإيجاري على اعتبارات جودة الحياة والاستدامة المالية والبيئية، ويعامل السكن كما لو أنه منفصل عن التطور الحضري للمدينة، كما يغلب على تلك المعالجات قصر النظر والارتجال بلا سند علمي.إطار عام بمستوى القضية
يتطلب حل القضية الإقرار بقصور النموذج الحالي وعدم ملاءمته للتحديات الاقتصادية التي تواجهها الكويت والتغيرات الاجتماعية والديموغرافية التي يمر بها المجتمع، والإتيان بإطار عام مختلف يقوم على الركائز التالية:أولًا: المنظور الاقتصادي
على صانعي السياسات العامة أن يعوا أن السكن يخضع للمؤثرات في العرض والطلب، ويستجيب المتعاملون فيه، من أسر ومطورين ومستثمرين وسماسرة، للحوافز الاقتصادية التي تفرضها طبيعة المجتمع أو تخلقها السياسات العامة.ثانياً: استدامة الرعاية السكنية
تحتم الاستدامة إعادة النظر في فلسفة الرعاية السكنية، فالاستمرار بتوظيفها كأداة لتوزيع الثروة للجميع يعني بالضرورة استمرار الضغط على المالية العامة، وإضعاف قدرة المؤسسة على تلبية احتياجات أجيال المستقبل، وانعدام العدالة، وزيادة اللامساواة الاقتصادية في المجتمع.ثالثًا: السياق الحضري
السكن ليس مجرد أرض ومبنى، بل هو جزء من السياق الحضري للمدينة الذي يشمل جوانب أخرى، كالنشاط الاقتصادي ومراكز العمل والمرافق العامة وشبكة النقل والنسيج الاجتماعي، والتكامل فيما بينها هو ما يحقق للمدينة التوازن والتطور والحيوية وانسيابية الحياة الاقتصادية والاجتماعية، ويجب أن تدعم السياسات الإسكانية هذا التكامل ولا تخل به.رابعاً: أهداف السياسات الإسكانية
يجب أن تحقق السياسات الإسكانية (الرعاية السكنية وكل التشريعات المنظمة لسوق العقار والتمويل واستخدامات الأراضي ولوائح البناء) الأهداف الأربعة التالية:1) القدرة على تحمُّل تكلفة السكن: رفع القيود على العرض، وتفعيل المطور العقاري خارج إطار المؤسسة، وتوسيع خيارات التمويل العقاري.2) تنوع الخيارات السكنية: لتتناسب وتفضيلات الأسر باختلافاتها الاجتماعية والديموغرافية، كما يعزز التنوع الحراك الحضري والسكني، حيث يتيسر للأسرة تغيير نمط سكنها وحجمه وموقعه وفق تغير احتياجاتها خلال دورة الحياة.3) جودة الحياة: الاهتمام بالخصائص الأخرى للسكن غير مساحة البناء، كالقرب من الخدمات الاجتماعية والمرافق التجارية والترفيهية والفضاءات الخضراء وسهولة الوصول إليها بوسائل متعددة، بما فيها المشي وتقليل التلوث والضوضاء.4) تماسك النسيج الاجتماعي: بناء بيئة حضرية تحفز الإلتقاء العفوي وتكوين العلاقات والتكافل الاجتماعي والمبادرات والأنشطة في الأحياء السكنية.خامساً: نهج صنع السياسات الإسكانية
لن تُحل قضية السكن المعقدة والمتشعبة بالارتجال ورد الفعل والمساومات السياسية، بل تتطلب نهجاً قائماً على الآتي:1) الشمولية: تقديم حزمة متكاملة من الحلول تراعي الجوانب الأخرى من الاقتصاد والمدينة. أما المعالجات المفردة، فقد تأتي بعواقب وخيمة، فمثلاً إتاحة الرهن العقاري مستحقة، لكن طرحه من دون زيادة العرض سيفاقم من تضخم الأسعار.2) مؤشرات القياس: لمتابعة تحقيق الأهداف في البند رابعاً.3) الاسترشاد بالدليل العلمي، من خلال عمل المسوح، وانفتاح البيانات المفصلة، وإتاحتها للأكاديميين المحليين والاستعانة بأبحاثهم.4) تفعيل دور وزير الدولة لشؤون الإسكان كصانع للسياسات الإسكانية، بما فيها المعنية بسوق العقار والتطوير والتمويل العقاري، لا أن ينحصر دوره في الإشراف على المؤسسة فقط.* أستاذ مساعد في الاقتصاد بجامعة الكويتباحث في الاقتصاد الحضري والإسكان والاقتصاد القياسي